حدود المسمى ودلالاته في المدونات التاريخية والفقهية العمانية

ناصر بن سيف السعدي

إن التركيبة الجغرافية والاجتماعية لعمان حضرت بدرجات متفاوتة في نصوص التراث العماني بشتى صنوفه وفروعه – أدباً وفقهاً وتاريخاً- وكان حضورها محمولاً بمقاصد وغايات ولم يكن ذلك مجرد حضورًا عابرًا، فقد جاء كاشفاً عن الصورة الذهنية المترسخة في وجدان الفرد العماني تجاه بلده ووطنه، لا سيما النصوص الفقهية المتمثلة في معالجة النوازل والوقائع والأحداث، وبغرض المناقشة والتفكير في أحكام وأطر منظمة لعلاقة العماني بأرضه، فالعمل على تقصّي حدود مسمى عمان الجغرافي جاء لاعتبارات تتعلق بمجالات لها صلة بشؤون التدبير وإدارة الحكم والرعية. وانطلاقًا من هذا الأساس حملت المدونات الفقهية والتاريخية جملة من المعاني والإضاءات التي ترمز إلى متانة العلاقة بين الفكر والجغرافيا، ويتأكد ذلك من خلال مضمون وثائق التعاقد السياسي بين الحاكم والمحكوم، فولاة الأمر حكام لعمان قاطبة، وليسوا على فئة أو جهة أو ناحية من نواحيها[1]. وامتد هذا الجهد النظري والرمزي إلى نسج أطر تربط ولاء الإنسان بالأرض، بعيداً عن الاعتبارات والانتماءات الضيقة، فالطاعة والولاء لعمان ومن يتولى زمام أمرها، وليس لأي سلطة أخرى، حتى وإن كان يتوافق معتقد بعض أهلها، فالأئمة كل إمام في مصره وليس على أهل عمان طاعته ولا الاستجابة لأمره[2]. وانطلاقًا من هذا الأساس تحمل نصوص الفقهاء والمؤرخين تلميحات وإشارات تعنى بالحدود الجغرافي لمسمى عمان، لا سيما تلك المتعلقة بالجوانب السياسية، مثل جهاد الدفع، وحدود سلطات الحاكم، وحقوق السلطة في جباية الزكاة والضرائب، إضافة جوانب اجتماعية وإنسانية[3].

والجغرافيا عموماً تمثل أحد العناصر التي تشكّل هوية الإنسان، ونمط عيشه، وعلاقاته مع الآخر، والنظر في هذه المسائل مجتمعة، يستوجب دراسة أعمق وتتبعًا أوسع وأشمل، وقد لا يتسع المقام هنا لكن الغاية في هذه العجالة تقديم نظرة عابرة على أمل أن تكون مدخلاً لدراسات لاحقة تستكشف أثر الجغرافيا العمانية بصورة أكثر شمولية ، وعلى هذا الأساس سوف تقتصر فكرة هذه المقالة على النظر في حدود مسمى عمان الجغرافي ودلالاته، كما ورد في المدونات التاريخية والفقهية التي يعود تاريخها إلى ما قبل عام 1390هـ/1970م، وذلك فيما يلي:

  • المؤرخون العمانيون

أول المؤلفات التي تحدثت عن عمان من الناحية التاريخية، هو كتاب (الأنساب) فقد عمد إلى رصد التركيبة القبلية في عمان وأماكن توزعها واستقرارها، بيد أن حدود عمان لم تنل في هذه المدونة عناية تامة، فقد كان جل تركيز سلمة بن مسلم العوتبي (ق: 5هـ/11م)  يكمن في تتبع تأريخ الاستقرار والاستيطان العربي في عمان وأنساب القبائل، في حين أغفل الحديث عن حدود عمان وإطارها الجغرافي بشكل مباشر وصريح[4]، فمثلا عندما أراد العوتبي أن يتحدث عن حدود ملك وسيادة مالك بن فهم الأزدي، قال: «استولى مالك بن فهم يومئذ على عمان، فملكها وما يليها من الأطراف وساسها وسار فيها سيرة حسنة»[5]، ولم يشر إلى أطراف عمان ونواحيها بإشارة صريحة وواضحة[6]، وقصارى ما أورده العوتبي إشارات ضمنية قد يفهم منها الحد الشمالي لعمان، كما هو الحال في النص التالي، إذ يقول:« فلم تزل قبائل الأزد تنتقل إلى عمان، حتى كثروا بها، وقويت أيديهم واشتدت شوكتهم … ثم إنهم ملئوا عمان، فانتشروا منها حتى نزلوا البحرين وهجر»[7]، في النص السابق إشارة إلى المناطق المجاورة لعمان، مثل البحرين وهجر، وفي موضع آخر من الكتاب تحدث عن منطقة بينونة[8]، ولعل هذه الإشارة أوضح الإشارات في الكتاب، وإن بينونة سميت بهذا الاسم ” لأنها بانت عن البحرين وعمان فصارت بينهما “[9]. من خلال هذه الإشارات، يمكن القول إن امتداد عمان ينتهي حيث تبدأ حدود البحرين، ومنطقة بينونة هي الحد الفاصل بينهما.  هذا على مستوى الحد الشمالي، أما أطراف الجهة الجنوبية من عمان فيكتنفها بعض الغموض في نصوص كتاب” الأنساب”، مع أنه أشار إلى نزول مالك بن فهم الأزدي في منطقة الشحر وقال:« ثم سار يؤم عمان، حتى انصب على الشحر، فتخلفت عنه مهرة بن حيدان… فنزلت بالشحر»[10]. وفي مكان آخر من الكتاب إشارة إلى أن منطقة الرمل التي هي بين الشحر وعمان، كما في النص التالي:« الأحقاف من الرمل، وهو ما بين الشحر إلى عمان، إلى البحرين، إلى عالج، ويبرين ووبار، والدو والدهناء…والحقف هو الرمل اليوم »[11]. ولكن اللافت في ظاهر النص أن العوتبي، جعل الشحر وكأنها بلد منفصل عن عمان، ويفصل بينها وبين عمان الرمل، أي المنطقة الصحراوية[12]. وهذا الفصل من قبل العوتبي، يستوجب الوقوف عنده، فهو لا يتسق مع الكثير من النصوص العربية وعلى وجه التحديد كتب البلدان والجغرافيا وحتى الأدب، فالشحر هو شحر عمان، وإقليم اقترن ذكره ونسبته بعمان، ولا تخرج النصوص العربية عن نسبة الشحر إلى عمان، إلا ما ندر[13]. هذا بشأن العوتبي، وبعده حدث انقطاع في المؤلفات التاريخية العامة، واستمر حتى القرن(11هـ/17م)، بظهور بعض السير التاريخية مثل سيرة ابن قيصر، وهي سيرة اقتصر مضمونها على توثيق تاريخ الإمام ناصر بن مرشد اليعربي، دون أن تتعدى ذلك، حتى جاء في القرن( 12هـ/18م)، سرحان بن سعيد الإزكوي مؤلف كتاب (كشف الغمة) لكنه لم يأت بجديد وذي شأن، يخص حدود مسمى عمان، فهو الآخر تتبع تاريخ الاستقرار العربي ونزول القبائل في عمان، وتجاهل الحديث عن أطراف عمان الشمالية أو الجنوبية عدا بعض الإشارات الضمنية، فقد أشار الإزكوي إلى بعض بلدان عمان التي تمتد حتى نهاية أطراف حدود عمان الشمالية، مثل منطقة تؤام[14]، وقد وردت عنده دون تحديد ولا امتداد، غير أن تؤام في نصوص أخرى يصل امتدادها حتى حدود الأحساء، وهذا ما أشار إليه المؤرخ ابن رزيق (ت: 1291هـ/1874م) في كتابه (الشعاع الشائع باللمعان) إذ يقول:« الظفراء[15] – الظفرة-رمال منتزحة من تؤام عمان يسكنها بعض أعراب بني ياس وغيرهم”[16]. ولابن رزيق كتب تأريخيه أخرى، مثل: كتاب (الصحيفة القحطانية)، إلا إنه لم يقدم جديداً، فيما يتعلق بالإطار الجغرافي، واكتفى بالحديث عن مسمى عمان والتركيبة القبلية فيها، وألمح بلمحة عارضة إلى أن عمان تجاورها البحرين[17]ولا جديد يذكر عدا ذلك. أما في كتابه (الفتح المبين في سيرة السادة البوسعديين) فقد اتخذ ابن رزيق منهجا مختلفا، فعندما أراد الحديث عن عمان، بدأ بمقدمات حول البنية القبلية، وتوزع القبائل وجذورها وأسمائها، والأعلام السياسية والدينية، ولم يتطرق إلى مسمى عمان ولا حدودها الجغرافية[18].

وفي الواقع أن غياب الإشارات الصريحة إلى حدود عمان في نصوص هؤلاء المؤرخين، لم يكن غياباً مقصوداً أو تجاهلاً متعمداً، بقدر ما كان السياق الزمني والظرفي  لم يخلق في أذهانهم دوافع حقيقية لمواجهة تحدٍّ أو خطرٍ يمس وحدة عمان الجغرافية، ولكن بمجرد أن ساد الشعور بنوايا الاستعمار في بلورة معطيات جديدة لعمان وتقسيم وحدة الأرض العمانية حدث التحول، وكان ذلك بدأً من مجيء نور الدين السالمي  (ت: 1332هـ/1914م)، فقد خصص السالمي بابًا في كتابه (تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان)، يحمل عنوان « مقدمة في تعريف عمان» رصد من خلاله ما قيل عن عمان وحدودها الجغرافية وأطرافها من جميع الجهات، وذلك من خلال نصوص وكتابات بعض المؤرخون العرب مثل: ابن خلدون والمسعودي، إذ نقل السالمي عن ابن خلدون قوله: «عمان إقليم سلطاني منفرد …شرقيها بحر فارس، وجنوبها بحر الهند، وغربيها بلاد حضرموت، وشمالها البحرين»[19]. ومع أن السالمي اكتفى بنقل ما رصدته المصادر العربية دون أن يكون حديثاً صرفاً منه إلا أن استحضار وحدة الأرض العمانية يحمل دلالات ويمثل تحولاً، وبداية لمنعطف جديداً في تعامل النصوص التاريخية مع البعد الجغرافي لمسمى عمان[20]. وقد تأكد هذا التحول عند من أتى بعد السالمي من المؤرخين، وقد عاشوا في ذات القرن الذي توفى فيه السالمي14هـ/20م وامتد بهم العمر حتى أواخر القرن العشرين، الأول محمد بن عبد الله السالمي (ت: 1405هـ/1985م)، صاحب كتاب (نهضة الأعيان بحرية أهل عمان) وقد ألف كتابه مع مطلع العقد السادس من القرن العشرين[21] وميزة هذا الكتاب تفرده عن غيره من الكتابات التاريخية العمانية التي سبقته بأن أورد خريطة جغرافية لعمان نشرت في الطبعة الأولى للكتاب عام 1382هـ/1963م ولم تنشر في الطبعات اللاحقة[22]. وتحدث عن حدود عمان بقوله إن عمان «جزء من جزيرة العرب تمتد من حدود قطر إلى حضرموت»[23]. أما المؤرخ الثاني فهو سالم بن حمود السيابي (ت: 1414هـ/1993م)، وله مؤلفات عدة في التاريخ، وتحدث عن حدود عمان الجغرافية، ومبدئها ومنتهاها من جميع الجهات، في كتابين من كتبه، هما (عمان عبر التاريخ)[24] و( العنوان عن تاريخ عمان) ومما جاء في الكتاب الأخير قوله:« حدود عمان من الجهة الجنوبية الحدود الظفارية، ومن الجهة الغربية رمال بينونة، ومن الجهة الشمالية حدود قطر[25]، ومن الجهة الشرقية بحر الهند، لا يمتري في هذا المؤرخون جاهلية وإسلاماً، كما جاء في الخرائط الجغرافية»[26]. ويبقى القول إن في مسألة اعتناء المؤرخين المتأخرين بحدود مسمى عمان، يحمل تأكيدًا على أن عمان وأهلها من الحد الشمالي إلى الجنوبي، أمة واحدة لا تقبل التجزئة.

  • نصوص الفقهاء والعلماء

ارتبط اهتمام الفقهاء والعلماء بالوحدة الجغرافية لعمان بعدة قضايا، وناقشوا هذه القضية في كثير من مؤلفاتهم، لا سيما الأبواب الفقهية التي لها صلة بفقه السياسة وإدارة شؤون الحكم والتدبير[27]، وقد بدأ هذا النقاش مبكراً  منذ القرن (2هـ/8م) وحتى جزء كبير من القرن (14هـ/20م)[28]، وما يميز تلك النقاشات والمداولات النظرية الإجماع على أن عمان بمنزلة البلد والمصر الواحد، من أول عمان إلى منتهاها، وهذا المبدأ يستدعي ترسيخ فكرة مسؤولية أهلها في الدفاع عنها، فهي مسؤولية لازمة وواجبة على كل عماني، لأن المعتدي إذا ما تغلب على بلد منها، غلب عليها كافة، كما يشير إلى ذلك النص التالي: «إن عمان كلها بمنزلة القرية الواحدة …والسلطان إذا غلب على قطر منها فقد غلب عليها كافة »[29].

هكذا حاول الفقهاء عبر كل المراحل الزمانية تقريباً إبقاء عمان أرضًا واحدة، وظل مبدأ الوحدة يشهر ويعلن كلما دعت الحاجة إليه، فمنذ أواخر القرن 12هـ\18م) أعيد النقاش حوله أكثر من مرة، وطرقه كل من الشيخ محمد بن سالم الدرمكي[30]، والشيخ سعيد بن خلفان الخليلي(ت: 1287هـ/\1871م)[31]، فعندما وجه للشيخ الدرمكي سؤالاً يتعلق بوحدة عمان الجغرافية، كان جوابه: «إن عمان بمنزلة المصر الواحد، وليست أمصارا»[32]، ونحا الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي هذا المنحى كذلك، ورد على كل من يقول إن عمان أمصار متعددة، بقوله: « إن عمان كلها مصر واحد »[33]، بل إن تجزئة عمان في نظر الخليلي، توهماً وتساهلاً، وهو محق في ذلك إذ قال:«… ومن يجعلها أمصارا تسامحا وتساهلا وربما يتوهم … ولا قائل فيها بأنها أمصار …»[34]. في هذا النص صيّر الخليلي مبدأ الوحدة ضرورة لا يمكن تعديه أو القول بغيره، وفي ذلك تأكيد رمزي ونظري لوحدتها الجغرافية والاجتماعية.

ولكون عمان بمنزلة الوطن الواحد، يستوجب أن يكون لها إطار جغرافي معلوم، يؤكد عليه ويؤيده حضور هذا البعد في النصوص الفقهية في وقت مبكر وفي أقدم المدونات الفقهية، التي يعود تاريخها إلى القرن (3هـ/9م)، وقد ورد نص في كتاب (جامع ابن جعفر) مرفوع عن محمد بن محبوب الرحيل يفهم من خلاله أن حدود عمان الشمالية، منطقة جلفار، إذ يقول نص ابن محبوب:«على المسلمين أن يخرجوا إليهم المعتدين إلى حد جرفار أو حيث نزلوا من الأطراف»[35]. وطرف عمان الشمالي أو جلفار تحديداً الأكثر مداولة في النصوص الفقهية، ولعله اكتسب هذه الخصوصية لكونه ثغراً من ثغور عمان، وكثيراً ما نفذ عبره من أراد الاعتداء على عمان[36]. إذ ورد في كتاب(المصنف) ما نصه: «قال عمر بن المفضل: خرجت حاجاً مع بشير بن المنذر من طريق توَام، فلما كنا قرب البحرين في موضع يقال له سحم أو شبه ذلك، تقلد بشير السيف، أو السلاح في ذلك الموضع. فقلت: ما هذا؟ قال: اعتقدت -نية الرباط- مذ دخلت هذا الموضع إلى أن نخرج منه؛ لأنه بلغني أنه كان وطئه العدو مرة»[37].

ومع وفرة النصوص التي تحدثت عن الحدود الشمالية لعمان، في مؤلفات الفقهاء والعلماء، إلا أن هنالك ندرة في النصوص المتعلقة بالحد الجنوبي لعمان على الأقل قبل القرن(10هـ/16م)، ومع ذلك هنالك بعض الإشارات التي قد تخفي بين ثناياها بعض الدلالات، كما هو الحال في مسألة وردت في كتاب (الضياء) ونصها: «من له أربعون شاة بظفار، وأربعون شاة بنزوى، فإنما عليه شاة واحدة تؤخذ منه (الزكاة) منه حيث يكون منزله»[38]، وهذا النص حمّال أوجه، ويصعب الجزم بمضمونه، عدا تلميح ضمني إلى البعد السياسي الذي يكمن في مسألة الزكاة أو إشارة إلى تبعية ظفار إلى السلطة المركزية. وإضافة إلى النص المذكور، هنالك نص آخر أكثر وضوحاً، يعود تأريخه إلى القرن 10هـ/16م، وفيه إشارة إلى طرفي عمان، وهما جلفار وظفار، والنص يعود إلى حسين بن شوال المحيلوي[39]، وقد ورد في قصيدة شعرية، ما نصه[40]:

وأما حدود عمان جلفار حدها

وحد ظفار منتهاه السواحل

وبعد قرن من تاريخ النص المذكور بدأت ظفار تظهر بين الحين والآخر في المدونات الفقهية، وتحديداً في عهد اليعاربة، فهناك مسائل فقهية ورسائل للأئمة تشير إلى دخول ظفار تحت كنف سلطة أئمة دولة اليعاربة[41]، فقد تولاها بعض الولاة لمدة من الزمن، منهم الوالي خلف بن أحمد بن عبد الله الرقيشي( 12هـ/18م)[42]، وإشارة أخرى، وردت في إحدى رسائل أحد العلماء تؤكد أن الإمام سلطان بن سيف الثاني اليعربي(ت: 1131هـ/\1719م)[43]، ملك ظفار مدة من الزمن[44]، ومع مجيء القرن( 14هـ/20م) بدأ حضور الجهة الجنوبية من عمان في نصوص العلماء[45]، مثل الإمام محمد بن عبد الله الخليلي(ت: 1373هـ/ 1954م)[46] ومراسلات الشيخ عيسى بن صالح الحارثي(ت: 1365هـ/1946م)[47].

هذا الحضور الذي يلامس الإطار الجغرافي لعمان، الغاية منه بلا شك التأكيد على مبدأ وحدة الأرض والجماعة[48]، وقد برز مظهرهما في العديد من النصوص، فمثلا في نصوص الأوقاف الخيرية يتجلى مبدأ الوحدة الاجتماعية، فقد أوقف أحد سكان مدينة بهلا مالاً لأهل عمان، وقد حددت وثيقة الوقف إطارًا جغرافيًا لعمان، وهو كما في النص التالي:« المال المسمى المفرش …الذي بقرية بهلا بالغبرة …الثلث (منه) لفطرة شهر رمضان يفطر به في الحرم لأهل عمان خاصة من حد الصير جاي»[49]. فالنص السابق حدد من هم أهل عمان والمستحقون للوقف، وهم أهلها حتى نهاية حدود الصير أو جلفار.

وتعددت الغايات السياسية التي تقف خلف مبدأ وحدة عمان في النصوص الفقهية، فقد ارتبطت بحقوق السلطة في تحصيل الزكاة، وحدود سلطات الحاكم ونفوذه وسيادته[50]. وأهم غاية هي واجب واجتماع أهلها على محاربة ودفع الخطر عنها، إذ يقول أبو المؤثر الصلت بن خميس (ق:3هـ/9م): «وعلى أهل عمان أن يجتمعوا جميعًا على محاربة العدو إذا أراد هلاك عمان»[51]. أما سعيد بن خلفان الخليلي فيؤكد على ذات المعنى وعلى إجماع أهل العلم على ذلك فيقول:«…إن عمان كالبلد الواحد في حكم الجهاد لعدوها وإنا نحفظ ذلك عن عامة أهل العلم»[52]. ومعنى هذه النصوص أن أرض عمان واحدة، وأهلها جماعة واحدة، والخطر الذي يتهدد طرفاً منها خطر عليها كافة، ووحدة الأرض والجماعة يقتضي أيضاً وحدة المصير، ويبعث على الألفة والتناصر. وليس هذا فحسب، بل إن بعض نصوص السياسة الشرعية تذهب مذهباً أكثر عمقاً، وترفض مبدأ التنافر والافتراق السياسي، فلا شرعية لتعدد السلطة لأنها بلد واحد « ولا يصلح إمامان في مصر واحد، كما لا يصلح سيفان في غمد واحد»[53]، ويرى ناصر بن جاعد الخروصي (ت: 1262هـ/1846م)[54] أن تعدد الحكام والأئمة باطل، إذ يقول: «العقد لاثنين باطل بالإجماع، مع علم بعضهم ومع غير العلم، فللمسلمين أن يختاروا من شاءوا أو واحد منهما أو غيرهما لبطلان ذلك منهما »[55].

وأخيراً، ومن خلال هذا الاستعراض الموجز لدلالات اعتناء المؤرخين والفقهاء بوحدة الأرض العمانية وتعيين حدودها الجغرافية فإن النخب الدينية والثقافية سعت إلى ربط الإنسان العماني وتشكيل ولاءه لوطنه، مبتعدين بذلك عن التجزئة الجغرافية وفكرة الانتماءات الضيقة، وإنما صاروا إلى فكرة الوطن الأعم والأشمل، ويتأكد هذا التأصيل في مختلف مؤلفات المدارس الفقهية العمانية[56]، فظلت عمان بمنزلة البلد الواحد، وترسخت هذه الفكرة في وجدان أهلها، حتى وإن كانت تعاني أحيانًا من انقسامات سياسية فهي تظل انقسامات طارئة لا ينبغي لها أن تهشم وحدة الأرض والجماعة، فمثلاً عندما كانت عمان في النصف الأول من القرن 14هـ/20م منقسمة لم يمنع هذا الانقسام الإمام محمد بن عبد الله الخليلي (ت:1373هـ/1954م)، من استحضار مبدأ وحدة عمان، فكان قوله إن: «عمان جزء لا يتجزأ »”[57].

 

[1]  االعوتبي، سلمة بن مسلم، الضياء، تحقيق الحاج سليمان بن إبراهيم الوارجلاني، وداود بن عمر الورجلاني، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، سلطنة عمان: 1436هـ/2015م، ج4، 706. الكندي، أحمد بن عبد الله بن موسى(ت:557هـ)، المصنف، تحقيق مصطفى بن صالح باجو، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، سلطنة عمان:1437هـ/2016م، مج7، ص: 359.

[2] السعدي، جميل بن خميس. قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة، مكتبة الجيل الواعد، مسقط: 2014، ج87، ص: 189.190. 191.

[3]  العوتبي، الضياء، ج4، ص: 746، السعدي، قاموس الشريعة، ج87، ص: 59.

[4]  من البلدان والقرى التي أشار إليها العوتبي: توام، والسر، وسمائل، ودما، وسمد نزوى، دبا، وقلهات، والجوف، وصحار، وسلوت، وتنعم، وعبري، والسليف، انظر: العوتبي، سلمة بن مسلم، الأنساب، تحقيق الدكتور محمد إحسان النص، ط4، وزارة التراث والثقافة، ج1، ص: 161، 300، 442، ج2، ص: 613، 718، 719، 727،

[5]  العوتبي، الأنساب، ج2، ص: 725.

[6]  العوتبي، الأنساب، ج1، ص:79.

[7]  العوتبي، الأنساب، ج2، ص: 714-715.

[8]  نقع بينونة اليوم على الحدود بين دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وتتداخل أراضي عمان من الجهة الجنوبية الغربية مع رمال الربع الخالي. انظر: اللواتي، على حسين، تاريخ عمان الحضاري، من القرن الرابع حتى السادس للهجرة دراسة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، مجلس النشر العلمي، جامعة السلطان قابوس، مسقط:2011م، ص: 23.

[9]  العوتبي، الأنساب، ج1، ص: 177.

[10]  العوتبي، الأنساب، ج2، ص: 717.

[11]  العوتبي، الأنساب، ج1، ص: 70-71.

[12]  الرمل: مسمى جغرافي كثيراً ما يرد في نصوص التراث العماني، ويقصد به غالباً المنطقة الصحراوية التي تعرف اليوم بـ(صحراء الربع الخالي)، ويرد أحيانا مسمى (رمل عمان). التميمي النجدي، محمد البسام (ق: 13هـ/19م) الدرر المفاخر في أخبار العرب الأواخر، تحقيق سعود بن غانم الجمران العجمي، مكتبة الكويت الوطنية، الكويت:1401هـ/1981م، ص: 235.

[13]  البطاشي، سيف بن حمود إتحاف الأعيان في تاريخ بعض علماء أهل عمان، مكتبة السيد أحمد البوسعيدي مسقط، ج2، ص: 21.

[14]  الأزكوي، سرحان بن سعيد، كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة، تحقيق حسن بن محمد عبد الله النابودة، ج2، دار البارودي بيروت:1426هـ/2006م، ص: 123-125.

[15]  تقع الظفرة اليوم على الحدود بين الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، من الجهة الجنوبية الغربية، ومن جهة البحر لها حدود مع دولة قطر. للمزيد انظر: لوريمر، ج.ج. سجل الخليج العربي، وسط الجزيرة العربية، السجل الجغرافي، مج5، ترجمة جامعة السلطان قابوس وآخرون، لندن: 1995، ص:145.

[16]  ابن رزيق، حميد بن محمد، الشعاع الشائع باللمعان في ذكر أئمة عمان، وزارة التراث والثقافة، مسقط:1438هـ/2016، ص: 113.

[17]  ابن رزيق، حميد بن محمد، الصحيفة القحطانية، تحقيق محمود بن مبارك السليمي وآخرون، وزارة التراث والثقافة، مسقط: 2009، ج2، ص: 170-175. سوف يشار لاحقاً إلى هذا المصدر بالطريقة التالية: ابن رزيق، الصحيفة القحطانية: 2009م. لوجود طبعة أخرى اعتمد عليها الباحث.

[18]  للمزيد حول طريقة تبويب المؤرخ ابن رزيق لكتابه انظر: ابن رزيق، حميد بن محمد، الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين، تحقيق عبد المنعم عامر ومحمد مرسي عبد الله، وزارة التراث والثقافة، مسقط: 1415هـ/1994م، ص: 507-509.

[19]  السالمي، عبد الله بن حميد، تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، مكتبة الاستقامة، مسقط: 1417هـ/1997م، ج1، ص:6-9.

[20]  السالمي، تحفة الأعيان، ج1، ص:6-9.

[21]  الكندي، محسن بن حمود، الشيبة أبو بشير محمد بن عبد الله السالمي (1314هـ/1896-1405هـ/1985م)، رياض الرياس للكتب والنشر، بيروت: 2011م، ج1، ص: 450.

[22]  الكندي، الشيبة أبو بشير، ج1، ص: 453.

[23]  السالمي، محمد بن عبد الله، نهضة الأعيان بحرية عمان، دار الجيل، بيروت: 1419هـ/1998م، ص: 6-9.

[24]  للمزيد حول جغرافية عمان بناء على ما وردت في كتاب (عمان عبر التاريخ) انظر: السيابي، سالم بن حمود، عمان عبر التاريخ، ط5، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان: 1421هـ/2001م، ج1، ص: 37 وما بعدها.

[25]  قطر إمارة على ساحل الخليج العربي الغربي، تحت حكم أسرة آل ثاني، للمزيد: التميمي، الدرر والمفاخر، ص: 235.

[26]  السيابي، سالم بن حمود، العنوان عن تاريخ عمان، مكتبة الضامري للنشر والتوزيع، مسقط:1436هـ/2015، ط2، ص:10.

2 العوتبي، الضياء، ج4، ص: 746، السعدي، قاموس الشريعة، ج87، ص: 59.

[28] للمزيد انظر: الكندي، أحمد بن عبد الله بن موسى، الاهتداء والمنتخب من سير الرسول عليه الصلاة والسلام وأئمة علماء عمان، تحقيق سيدة إسماعيل كاشف، وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط: 1406هـ/1985م.ص: -175-183. البوسعيدي، مهنا بن خلفان، لباب الآثار الواردة علم الأولين والمتأخرين الآخيار، وزارة التراث القومة والثقافة، مسقط: 1406هـ/1986م، ج2، ص: 413-454. أجوبة المحقق الخليلي، سعيد بن خلفان الخليلي، ط1، مكتبة الجيل الواعد، مسقط: 1431هـ/2010م. ج5، ص: 35. 309. السالمي، عبد الله بن حميد، جوابات الإمام السالمي، راجعه الدكتور عبد الستار أبو غدة، مكتبة الإمام السالمي، ولاية بدية، سلطنة عمان: 2010م، ج2، ص: 11. البطاشي، إتحاف الأعيان، ج1، ص: 478.

[29]   الإزكوي، محمد بن جعفر (حي: 277 هـ)، تحقيق جبر محمود الفضيلات، ط3، وزارة التراث والثقافة، مسقط: 1432هـ/2010م، ج8، ص: 45، الحواري، محمد، جامع أبي الحواري، وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط: 1405هـ/1985م. ج1، ص 92.

[30]  محمد بن سالم الدرمكي، قاض وفقيه، له العديد من الآثار العلمية، للمزيد انظر: السعدي، فهد بن علي، معجم الفقهاء والمتكلمين الإباضية، (قسم المشرق)، مكتبة الجيل الواعد، مسقط: 1438هـ/2007م، ج3-4، ص: 91.

[31]  سعيد بن خلفان الخليلي، أحد أهم العلماء ورجال السياسة في القرن 13هـ\19م، ومن الذين نصبوا الإمام عزان بن قيس إماما لعمان، عام 1285هـ/1868م، للمزيد، السعدي، معجم الفقهاء، ج1-2، ص: 76 وما بعدها.

[32]  السعدي، القاموس، ج87، ص: 198.

[33]  الخليلي، سعيد بن خلفان، ط1، مكتبة الجيل الواعد، مسقط: 1431هـ\2010م.ج7، ص: 225-227″.

[34]  الخليلي، أجوبة المحقق، ج7، ص: 228-229.

[35]  ابن جعفر، الجامع، ج8، ص: 44.

[36]  مجهول، السير والجوابات، ج1، 254.

[37]  الكندي، المصنف، ج8، ص:43.

[38]  العوتبي، الضياء، ج9، ص: 349.

[39]  للمزيد حول الشاعر والفقيه حسين بن شوال، انظر: البطاشي، إتحاف الأعيان، ج2، ص: 423.

[40]  البطاشي، إتحاف الأعيان، ج2، ص: 423.

[41]  ابن عبيدان، محمد بن عبد الله، جواهر الآثار، وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عمان: 1405هـ/1985م، ج3، ص: 85، الخراسيني، عبد الله بن محمد. فواكه العلوم في طاعة الحي القيوم، تحقيق محمد صالح ناصر، مهنى بن عمر التيواجني، ط1، مكتب مستشار جلالة السلطان للشؤون الدينية والثاريخية، مسقط: 1415هـ/1994م، ج1، ص:276. البطاشي، سيف بن حمود، الطالع السعيد نبذ من تاريخ الإمام أحمد بن سعيد، مكتب مستشار جلالة السلطان للشؤون الدينية والثاريخية ، 1417هـ/1997م، ص:86.

[42]  من ولاة أئمة اليعاربة، تولى ولاية ظفار، وجلفار وقريات، للمزيد انظر: البطاشي، إتحاف الأعيان، ج1، ص: 383.

[43]  سلطان بن سيف اليعربي الثاني، الإمام الخامس من أئمة اليعاربة، للمزيد انظر: ابن رزيق، الفتح المبين، ص: 296، السالمي، تحفة الأعيان، ج2، ص: 110.

[44]  البطاشي، إتحاف الأعيان، ج1، ص: 383؛ البطاشي، سيف بن حمود، الطالع السعيد نبذ من تاريخ الإمام أحمد بن سعيد، بدون دار، 1417هـ\1997م، ص: 211.

[45]  السالمي، محمد بن عبد الله، نهضة الأعيان بحرية عمان، دار الجيل، بيروت: 1419هـ/\1998م، ص: 73.

[46]  محمد بن عبد الله الخليلي، تولى الإمامة عام 1339هـ/1920م، بعد وفاة الإمام سالم بن راشد الخروصي، للمزيد انظر: السعدي، معجم الفقهاء، ج3-4، ص: 132.

[47]  عيسى بن صالح الحارثي، من علماء القرن 14هـ/20م، ورجال إمامة محمد بن عبد الله الخليلي، للمزيد انظر: السعدي، معجم الفقهاء، ج1-2، ص: 399 وما بعدها.

[48]  السعدي، القاموس، ج30، ص: 130، 182. ابن وضاح، تبصرة الأحكام، مخطوط، ج2، ص: 12، العوتبي، الضياء، ج11-12، ص ٥٠٧. السالمي، الجوابات، ج5، ص: 309.

[49]  العبري، خميس بن راشد، شفاء القلوب من داء الكروب، مكتب المستشار الخاص لجلالة السلطان للشؤون الدينية والتاريخية، مسقط: 1431هـ/2010، ط1، ج2، ص: 92.

[50]  ابن جعفر، الجامع، ج8، ص: 33.

[51]  ابن جعفر، الجامع، ج8، ص: 159.

[52]  الخليلي، أجوبة المحقق، ج7، 237.

[53]  العوتبي، الضياء، ج4، ص”684-685. السعدي، قاموس الشريعة، ج87، ص: 37.

[54]  ناصر بن جاعد الخروصي، قاض، وفقيه وناظم للشعر، للمزيد انظر: السعدي، معجم الفقهاء، ج3-4، ص: 240 وما بعدها.

[55]  السعدي، القاموس، ج86، ص: 47.

[56]  الفارسي، حبيب بن يوسف، فتاوى حبيب بن يوسف، مكتب مستشار جلالة السلطان للشؤون الدينية والثاريخية ، ط1، سنة 1414هـ/1993م.، ج2، ص: 421، 431، 436، 514.

[57]  السالمي، نهضة الأعيان، ص:73.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *