المخطوطات العُمانية المهاجرة إشكالية المفهوم والدلالة

سلطان بن مبارك بن حمد الشيباني

[1]

  • اصطلاحات علم المخطوطات:

إذا كان عِلْمُ المخطوطات – بالصورة التي نتعارف عليها اليوم – عِلْمًا طارئا حديثا؛ فإن بعض الاصطلاحات التي يتداولها أهلوه والمشتغلون به أكثرُ جِدَّةً وحداثة، كالمخطوطات المهاجرة، والمخطوطات الأَلْفِيَّة، والمخطوطات المُوَقَّعَة، وتحقيق المخطوطات، وحَرْد المَتْن، وخوارج النصّ، والطباعة… ولا ريب في حداثتها لأن المعارف تتطور ولا تقف عند حدّ، لكن يبقى الإشكال في اختلاف الدارسين حول اختيار ألفاظٍ يصطلحون عليها للدلالة على معنًى يريدونه، وفيما يشمله ذلك اللفظ وما لا يشمله، فالمصطلح مَبْنًى لغويٌّ للفظ يُصبح إذا ذُكِر تبادَرَ للذهن مفهومُه ومعناه.

وحين نتدارس اليوم (المخطوطات المهاجرة) ينبغي لنا أن نتساءل – بداءَةً – هل تطوَّرَ هذا اللفظ حتى صار اصطلاحا متعارفا عليه؟ أو هو وصف عابرٌ أطلقه بعضُ الباحثين، ثم تناقلَتْهُ الألْسُنُ شيئًا فشيئا؟ ولنا أن نتساءل – ثانيةً – عن عُدول معهد المخطوطات العربية عن لفظ (المهاجرة) إلى لفظ (المُهَجَّرَة) في احتفائية هذا العام بيوم المخطوط العربي، وقبلَهُ كان صنيع مؤلفي كتاب (المخطوطات العربية المهجّرة) الذي أصدره مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية قبل ثلاث سنوات؛ هل هذا اللفظ أدَقّ؟ وما هي دلالاته وإيحاءاته؟

 

[2]

  • المخطوط المهاجر رسولُ سلامٍ:

عطفًا على ما تقدم أقول: إذا تحدثنا عن المخطوط وهجرته فلا ينبغي لنا أن ترتسم في أذهاننا صورةُ مُعْتَدٍ سَلَبَ منا تراثنا، وجرّدنا من نفائسَ نعتز بها، فليست هذه السبيلَ الوحيدة لهجرة المخطوط، كما سيأتي بيانُه، على الأقل فيما يخص شأننا العُماني، ومما يؤسف له أن تُلازِمَ هذه الصورةُ الذهنية مصطلحَ المخطوط المهاجر، فلا يكاد يُذكر إلا انصرفت الأذهان إليها. مع أن (الهجرة) حركة طبيعية لازمت جُلَّ المخطوطات، لأن الكتاب وعاءٌ معرفي يفقد قيمته إن ظل محصورا في إطار ضيق، وتعمُّ فائدته وتتحقق جدواه إن بُثَّتْ معارفه وانتشر انتشارا واسعا.

على أننا اليومَ أحْوَجُ ما نكون إلى اعتبار مخطوطاتنا المهاجرة رُسُلَ سلامٍ إلى الشعوب الأخرى، ووشائجَ تواصُلٍ، وحبالَ مودَّةٍ، تُمَهِّدُ لنا أرضيَّةً نتحاور فيها ونتفاعل، في زمنٍ كثرتْ فيه النزاعاتُ وتعددت فيه الصراعات، ولم يَسْلَمْ منها القاصي والداني. لا أقول ذلك مِنْ ضعفٍ، ولا تبريرًا لأمرٍ فعله بعضُ المستشرقين وأذنابهم، لكن الواقع يقتضي أن نعطي لكل مقامٍ مقالَه.

 

[3]

  • المخطوطات العُمانية:

وأجدني في بداية الحديث منساقًا – من باب التذكير – إلى تنبيه القارئ أنني عندما أَطْرَحُ مُصْطَلَحَ (التُّراث العُمانِيّ) أو (المخطوط العُمَانِيّ) فلستُ أحتَكِرُ تراثًا إسلاميًّا عربيًّا في حُدودٍ إقليمية ضيّقة، إذ المخطوطُ لا وَطَنَ له، والعِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، غير أنّي أبتغي من ذلك بيانَ الحَدِّ وما يَدْخُل فيه وما يَخْرُج منه. فـ (المخطوط العماني) مصطلح نستعمله دلالةً على نتاج العُمَانِيّين الفكري المكتوب؛ سواء بقي في بلادهم أم خَرَجَ منها. ومن البداهة أن نقول إن تراث كل قُطْرٍ مخصوصٌ بسِمَاتٍ جعلت له طابعًا خاصا، فلا ريب أن تكون للمخطوطات في عُمان خصوصيّةٌ في بعض الجوانب عن مخطوطات غيرها، جَعَلَتْهَا تصطبغ بصبغة عُمانيّة تُمَيّزها.

وتحديدُ دلالة مصطلح (المخطوط العماني) يترتب عليه تصوُّرٌ أوضح لِمَا يدخل ضمن (المخطوطات العمانية المهاجرة). ويجدر التنبيه هنا إلى أن وَصْفَ المخطوط بـ (العُماني) لا يستلزم نَفْيَ نسبته إلى بلدٍ آخر، لاعتبارات متعددة، كما أنّ وَصْفَهُ بـ (المهاجر) لا يقتضي سَلْبَ عُمانيته. ولعل ضرب الأمثلة لاحقا سيُعيننا على فهم هذه الفَذْلَكَة.

بقيتْ مسألةٌ هنا تتعلق بمنسوخات العُمانيين لمؤلفات غيرهم؛ هل تُعَدُّ مخطوطاتٍ عمانية أو لا؟ ورأيي أن اللفظ يشملها مع قُصور مرتبتها عن مرتبة المؤلفات؛ نظرًا إلى كونها تُشَكِّل جانبا من اهتمامات العمانيين، وتبرز إسهامهم في مجال النسخ. فالمؤلفاتُ العمانية لها الأولوية، وهي محل بحثنا، تليها المنسوخات. ولا بأس بإدراج أيِّ مخطوطٍ تَمَلَّكَهُ عُمانِيٌّ، أو نَظَرَ فيه، أو كتب تقييدًا على ظهره. كلُّ ذلك من باب الاستقصاء ومزيد الفائدة.

 

[4]

  • أعلام عُمان:

وبناء على ما تقدَّمَ تصادفنا هنا قضيةٌ يكثر الخلاف حولها، وهي تحقيق نسبة بعض الأعلام إلى عُمان أو نفيها، ونخصّ بالذكر من هؤلاء الأعلام: أئمةَ اللغة الثلاثة: الخليل بن أحمد الفراهيدي، والمبرد الأزدي، وأبا بكر محمد بن الحسن بن دريد. ويجري مجراهم في خلاف النسبة وذيوع الصيت: الملاح الشهير أحمد بن ماجد السعدي في القرن التاسع الهجري. وقد قلتُ في دراسة سابقة لي إنني «لستُ أخشى من الغفلة عن عَلَمٍ من أعلام عُمان؛ قَدْرَ ما أخشى أن يقال إني تَجاوزتُ الحدَّ فعَمَّنْتُ مَنْ ليس بالمُعَمَّن أو المُتَعَمِّن. مع أن أسلافنا المؤرخين عَدُّوا الولادة والنشأة والإقامة والنُّزول والوفاة من دواعي النسبة إلى بلدٍ ما، ولو مشينا على طريقة الخطيب البغدادي لأنشأنا لكل بلدٍ تأريخا من مجلدات؛ على شاكلة (تاريخ بغداد)».

وما زلتُ أقول أيضًا: إننا لو تَنَازعْنا نسبةَ بعض الأعلام مع أقاليم أخرى لكانت العراق أولى بمنازعتنا، فكم من أعلامٍ ذوي أصول عمانية في القرون الهجرية الأولى ارتحلوا إلى العراق واستقروا في حواضرها كالبصرة والموصل؟ والعكس صحيح أيضا، فقد استقر بعُمان أعلامٌ نزلوها من أقطار عدة، كالفقيه أبي بكر يحيى بن زكريا الموصلي (ق3هـ) المتوفى بإزكي، والإمام محمد بن علي القَلْعِي (ت577هـ) المتوفى بظفار، والطبيب نصر الله بن حاجّي بن محمد الهرموزي (ق10هـ) المدفون في وادي السَّحْتَن، ومن المتأخرين: الأديب المتصوف محمد بن صالح المنتفقي الصِّيريّ (ق12هـ) المنتسب إلى بني المنتفق من قبائل البصرة في العراق، ومنها أصله. وسكن الصِّير (جلفار، رأس الخيمة) فنُسب إليها. ودُفن في «كمزار» من مسندم. والفقيه محمد بن أحمد الزواوي الأحسائي المسقطي (ق13هـ) والشيخ سليمان بن أحمد بن الحسين آل عبد الجبار القطيفي نزيل مسقط (ت1266هـ) والسيد فضل بن علوي مولى الدويلة باعلوي الظفاري (ت1318هـ).

وهذه التعددية في النسبة البلدانية تعد عاملا آخر من عوامل هجرة مخطوطاتهم.

[5]

  • الحد الجغرافي لعُمان:

ثاني الإشكالات المترتبة على مصطلح (المخطوط العماني): قضية الحد الجغرافي لعمان، واختلافه في الماضي والحاضر بين التوسع والانحسار، وهو ما يترتب عليه تحديد مصطلح (المهاجر) وصحة انطباقه على غيره، فمن الأقاليم ما كان تابعا لعُمان إلى وقت قريب، وليس دقيقا وصفُ المخطوطات العمانية بها بالمهاجرة، إذ تَعُود ملكيتها إلى عمانيين استوطنوا هنالك، وخلفوها فيما خلفوا من آثار ودُورٍ وأموال، وهذه قضية شائكة واسعة الأطراف، أراني أضرب صفحا عنها هنا، مكتفيا باعتماد الحد الجغرافي المعاصر لعُمان، واعتبار ما وراءه نطاقا مكانيا للبحث، أيًّا كانت صفته في الماضي، لأن القصد هنا إحصاء المخطوطات وإفادة الباحثين بها، وليس من غرضنا إثبات جِنْسِيَّةٍ للمخطوط أو نفيها عنه.

ومن هذا الباب أقول: لا يليق بنا أن نحشر السياسة في أطروحاتنا العلمية، فقد قامت ممالكُ على أنقاض ممالك، وتعاقبت دُوَل بعد دول، وتغيرت الحدود، وتبدلت المعالم، والتاريخ يبقى تاريخا كما هو. إنما ترغمنا طبيعةُ بعض الدراسات أن نستحضر حدودًا جغرافية نبني عليها حد الدراسة المكاني، لأغراض علمية بحتة.[6]

  • حركة المخطوط:

بعد المقدمات السابقة، وبعد أن استعرضنا إشكالات تتعلق بمصطلح (المخطوط العماني) ننتقل هنا إلى مناقشة دلالات مصطلح (المهاجر). وقد عُنيتُ منذ مدة برصد قوائم للمخطوطات العمانية المهاجرة إلى شتى بقاع العالم، وصَدَّرْتُ الحديث عنها بمقدمة عن ما أسميتُه (جغرافية المخطوط العماني). وهذا اللفظ (جغرافية المخطوط) من الألفاظ المبتدعة التي لم تُناقَشْ دلالاتها بصورة واضحة، وجُلُّ مَنْ تَعَرَّضَ لدراسة هذا الموضوع ينصرف إلى الحديث عن المخطوطات المهاجرة، وخريطة توزيعها.

غير أني أرى لهذا اللفظ دلالاتٍ أبعد من ذلك، فالجغرافية تشمل (حركة المخطوط) بمفهومها الواسع، ابتداء من مكان التأليف، مرورًا بأمكنة النَّسْخ والتَّمَلُّك، وانتهاء بمكان الحفظ الحالي. فمن المعلوم أن الكتاب يبتدئ بنسخة مؤلفه في الموطن الذي ألَّفه فيه، ثم تؤخَذ نسخته لتُنسخ في مكان آخر في بلاده أو ما جاورها، فتتولّد عن النسخة الأم بناتٌ شتى، وقد تخرج من يد متملكيها إلى غيرهم إرثا أو هبةً أو تُتداول بالبيع والشراء في أسواق الكتب، إلى أن تُلْقي عصا التسيار في المكان الذي تُحفظ فيه الآن. ولكل مرحلة من هذه المراحل خصائصها وظروفها ودواعيها.

وفي المجمل تُعَدُّ حركة المخطوط – بهذا المعنى – أمرًا طبيعيا، وهي مؤشر على قبول الكتاب ومدى انتشاره زمانا ومكانا، فمِنَ الكتب ما لا يكاد صاحبه يرفع القلم عنه حتى تتلقفه الأيدي بالنَّسْخِ والتداول، فيعبر الأقاليم ويتجاوز الحدود والآفاق، ومنها ما لا يبرح بيتَ صاحبه سنين ودهورا!

 

[7]

  • هجرة المخطوط:

انطلاقا من مبدأ طَلَبِ العلم ولو بالصين، وأن الحكمة ضالة المؤمن ينشدها أنى كانت؛ حرص المسلمون من قديم الزمان على الرحلة في طلب العلم مفيدين ومستفيدين، وبثوا تعاليم دينهم في أصقاع المعمورة، ونشروا تراثهم الأصيل. وشهدت الأقطار الإسلامية تواصلا ثقافيا كبيرا بينها، نتج عنه ما يسميه المعاصرون «حركة المخطوط» أو «رحلة المخطوط» أو «هجرة المخطوط» التي هي ظاهرة إيجابية حميدة، أفرزتها الحضارة الإسلامية.

ولا ريب أننا نتحدث هنا عن الانتقال الكلي للمخطوط في وعائه المادي ومضمونه، ولا نتحدث عن انتقال المعرفة واقتباسها نصًّا أو مضمونا عبر القراءة، أو الإقراء، أو السماع، أو الإجازة، أو ما شابه هذا من وسائل نقل المعرفة بالشكل الذي كان معروفا في القديم، فذلك أمرٌ لا يمكن استقراؤه، وهو ناتج عن حركة طبيعية جدا للتواصل العلمي والحراك الثقافي المعرفي. «ولا ننسى أن العلماء الذين كانوا يصنفون الكتب في هذا المجال العلمي أو ذاك لم يكونوا مستقرين دائما في بلدانهم، بل إن هجرة العلماء وطلبة العلم كانت دَيْدَنًا يَسِمُ الأعصار السالفة، وكان الأُلَى يعودون منهم إلى أوطانهم الأصلية مُحمّلين بما اقتنوا من نوادر الأسفار».[1]

هذا التواصل العلمي سببٌ رئيس في ظاهرة هجرة المخطوط، وثمة أسباب أخرى منها: الإهداءات، وهي مظهر اجتماعي مصطبغ بصبغة ثقافية. والأوقاف العلمية التي كان المحسنون يتسابقون إليها، وعلى رأسها المخطوطات، وكثير منها جاوز الحدود لينتفع به مئات الطلبة عبر عصور متلاحقة في أقاليم متعددة. ومنها: ظهور حركة الطباعة؛ التي استدعت خروج الكتاب من موطنه إلى موطن طباعته، وكانت النُّسَخ المرسلة لا تعود إلى ديارها في غالب الأحيان. ومنها: حركة الاستشراق التي وضعت اليد على نفائس كثيرة في العالم العربي والإسلامي ونقلتها إلى بلدانها، مستخدمة في ذلك أساليب متنوعة.

 

[8]

  • هجرة العقول:

وما دمنا ننظر إلى هجرة المخطوط بأنها حركة طبيعية؛ فكيف ننظر إلى هجرة مؤلفي المخطوطات؟ وأنا أعني هنا مَنْ خَرَجَ من قُطره العُماني باحثا عن معرفة، أو ساعيًا إلى رزق، أو مضطرا إلى هجرة، أو سائحًا متقلبا في بقاع الأرض، واستقرَّ به المقام في وطن آخر، وكَتَبَ وألَّف فيه، فهل نعد نتاجه مُهاجرا؟ ألَمْ تَسْبِق الهجرةُ هنا زمانَ التأليف؟

ولعلنا نستحضر – لتقريب المعنى – مثال المقرئ العماني أبي محمد الحسن بن علي بن سعيد، فقد نشأ بعُمان أواخر القرن الرابع الهجري، ورحل منها لطلب العلم إلى العراق، والأهواز، وعسكر مكرم، وسجستان، وصرح أنه ألف كتابه (الأوسط) في هذه الأخيرة؛ مطلعَ القرن الخامس الهجري، وقد انتشرت مصنفاته انتشارا واسعا، ولا أَعْلَمُ لها نُسَخًا في خزائن وطنه عُمان.

وذكر المؤرخ الليبي سليمان باشا الباروني في كتابه (الأزهار الرياضية) شاعرا عُمانيا يسمى علي بن أحمد العماني، من أهل القرن الثالث عشر، ساح بالقارة الإفريقية، وزار نفوسة وميزاب، ثم توجه إلى السودان «وفي طريقه ذلك سُرق منه ديوانه الجامع لأشعاره وقصائده وما حرره من رحلته» فتوفي هنالك كمدًا عليه[2]. وبقيت له قصائد متفرقة، منها: تشطيرٌ لقصيدة الإمام أفلح بن عبد الوهاب الرستمي (ت258هـ) في طلب العلم، وقصائد في مدح المغاربة، وقصائد في الحنين إلى دياره بعُمَان؛ بعضُها مُؤَرَّخٌ في 1270هـ/ 1853م[3]. وهو رجل مغمور عند أهل عمان لا يكاد يعرف، وعلمتُ من قريب أنه: علي بن أحمد بن سيف الحجري من أهل بَدِيَّة بشرقية عُمان؛ حسب وثائق وُجِدَتْ بخطه في ميزاب بالجزائر[4]. فنِتَاجُ مثل هؤلاء العلماء والأدباء نتاجٌ لم تشهده عُمان حتى يقال إنه هاجر منها. غير أنَّا نصنفه ضمن التراث المهاجر تجوُّزًا من باب شمولية الإحصاء والاستقراء.

 

[9]

  • الخريطة المكانية للمخطوطات المهاجرة:

تضمُّ مكتباتُ العالَمِ العَرَبِيّ قدرًا لا بأس به من ذخائر التراث الفكري العُمَانِيّ، وَصَل إليها بطرُقٍ مُختلفة. وكنت أحصيتُ في كتابي (مفتاح الباحث) أَلْفَ مخطوط عماني مهاجر، وكانت الغاية من هذا العدد التمثيل لا الحصر. وسأعرج هنا إلى ضرب أمثلة سريعة لمخطوطاتنا المهاجرة، من الأقرب فالأبعد.

ففي الإمارات: نسخة من كتاب مَكَارِم الأخلاق وَجَوَاهِر الأَعْلاق؛ تأليف: عامر بن عبد الله بن غريب العقري النَّزْوِيّ (ق11هـ)؛ محفوظة في مكتبة لجنة التراث والتاريخ بأبوظبي. وفي السعودية نسخة من الجزء السابع والثلاثين من المصنف منسوخة في القرن العاشر، محفوظة بمكتبة الملك عبد العزيز. وثمة نسخة مخطوطة من كتاب: تَبْصِرَة المُعْتَبِرين فِي تَاريخ العَبْرِيِّين؛ تأليف: إبراهيم بن سَعِيد بن مُحْسِن العَبْرِيّ (ت1395هـ/ 1975م). محفوظة في مكتبة أرامكو بالدَّمَّام، أشار إليها خير الدين الزِّرِكْلِيُّ في الأعلام، في ترجمة (عَبْرة بن زَهْرَان). وفي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت أجوبة الشيخ محمد بن صالح المنتفقي على سؤالات الشيخ علي بن عثمان البلوشي؛ ونسخة للجزء التاسع والأربعين من بَيَان الشَّرْع؛ ونسخة من مُخْتَصَر البِسْيَوِيّ. وفي البحرين مخطوطة: الفَوَائد في أصُولِ عِلْمِ البَحْر والقواعد؛ لابن ماجد، نُسْخَة مكتبة الأستاذ علي محمد التاجر الخاصة. وفي دار الكتب القطرية: نسخة من ديوان الستالي، وأخرى من ديوان الحبسي. وفي مكتبة الأحقاف باليمن نسخة من ديوان الكيذاوي. وفي العراق نسخة من منظومة زاد الفقير في الطب، ونسخة لشرحها، محفوظتان بالمتحف العراقي ببغداد.

وفي المكتبة الظاهِريّة في دمشق (سوريّة) أو مكتبة الأسد حاليًا نسخة من كَشْف الغُمَّة الجَامِع لأَخْبَار الأُمَّة؛ للإزكوي، ونسخة من الكشف والبيان للقلهاتي. أما مصر فتزخر بعدد وافر من المخطوطات العمانية، منها: كتاب الأنساب للعوتبي، وفتيا الربيع بن حبيب، وآثار الربيع بن حبيب، والدعائم لابن النضر، وديوان الستالي، كلها في دار الكتب. والمقال يضيق عن تعداد المخطوطات العمانية في خزائن الإباضية بليبيا وتونس والجزائر، ففيها المئات منها، وسأكتفي هنا بالتمثيل بما في غيرها. مثل كشف الغمة للإزكوي، في دار الكتب الوطنية بتونس، والمرشد للمقرئ العماني في الخزانة العامّة بالرباط بالمملكة المغربية، والكِتَابُ الأَوْسَطُ فِي عِلْمِ القِرَاءَات؛ له أيضا، محفوظ بالخِزَانة الحَسَنِيَّة بالمَمْلَكِة المَغْرِبيَّة.

هذا في حدود العالم العربي. ولا ننسى (زنجبار) أندلس العُمَانِيّين المفقود، فلها نصيبٌ مُعْتَبَرٌ من التراث العُمَانِيّ الذي قُدِّر له البقاء إلى اليوم بعد نكبة عام 1383هـ/ 1964م. والشرقُ الإفريقي كله مظنّةٌ لوجود مخطوطات عمانية متناثرة هنا وهناك، لِعُمْق الأثر العماني في تلك الديار. أما خزائن إيران وتركيا ففيها العديد من مخطوطات أئمة اللغة الثلاثة: الخليل والمبرد وابن دريد. وفي مكتبة الكلية الإسلامية (مجموعة غلام جيلاني) بجامعة بشاور في باكستان مجموع قصائد للشاعر سليمان النبهاني. ولا تخلو مكتبات الهند من مخطوطات عمانية، مع شُحٍّ في فهارسها المنشورة. وفي روسيا جملة من مخطوطات أحمد بن ماجد ضمن مقتنيات معهد الدراسات الشرقية في لينينغراد (بطرسبرج)، وفي مكتبة جامعة لڤوڤ بجُمْهُوريَّة أوكرانيا مجموع السير العُمانية.

وإذا انتقلنا إلى قلب أوروبا فالقائمة تطول، إذ تتركز مخطوطات عمانية عديدة في ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة. وحسب بياناتي الإحصائية تتصدر مكتبة ستراسبورغ (Strasbourg) الوطَنِيَّة والجامِعِيَّة (الواقعة بمدينة ستراسبورغ الفرنسية على نَهْرِ الرّاين بِمُحَاذاة الحدود الألمانية) قائمة المكتبات الغربية التي تضم مخطوطات عمانية، ففيها ما يقارب 46 مخطوطا عمانيا. ونختم بالولايات المتحدة الأمريكية ففي مكتبة جامعة كولمبية بنيويورك نسخة من كتاب (قِصَصٌ وأخْبَارٌ جَرَتْ بِعُمَانَ)؛ للمعولي.

هذه الخلاصة كفيلة بتقديم صورة موجزة لتوزع مخطوطاتنا المهاجرة في خزائن العالم.

 

[10]

  • الخط الزمني لهجرة المخطوطات العمانية:

من البدهي عند الحديث عن ظاهرة هجرة المخطوط أن يتزامن ظهورُها مع ظهور المخطوط نفسه، فما دامت المعرفةُ غايةً منشودة عند البشر باتَ السعيُ إلى أوعيتها مطلبًا مستمرا. وزمانُ الهجرة قد يتأخر عن زمان تأليف المخطوط وزمان نَسْخِهِ، وقد يكون قريبَ عهدٍ بهما. ونحن حين نبتغي رَصْدَ خطٍّ زمني لهجرة المخطوطات تواجهنا مشكلة شح المعلومات المصرِّحة بزمان الهجرة، فقد نَجِدُ تقييداتٍ زمنية لهجرة مخطوطات عمانية في القرون المتقدمة ولا نجد أثرًا لأصولها اليومَ في البلدان التي هاجرت إليها، والعكسُ صحيح؛ نرى عددًا من المخطوطات المستقرة خارج عُمان اليومَ ولا نعلم متى خرجت ولا دواعي خروجها.

ومِنْ أقدم المؤشرات التاريخية في هذا الجانب ما رَصَدَتْهُ المصادرُ المغربية الإباضية من هجرات جماعية لبعض الكتب العمانية، من أبرز أمثلتها: رحلة عيسى بن زكريا اليَرَاسِنِيّ الجربي من جزيرة (جِرْبَة) في تونس إلى عُمان في القرن السابع الهجري، وقد حمل معه كتبًا بعضها وصل إلى الإباضية بالمغرب لأول مرة، مثل: «الجامع» لمحمد بن جعفر الإزكوي (ق3هـ) و«الجامع» لأبي الحسن علي بن محمد البِسْيَوِيّ (ق4هـ) و«الحل والإصابة» لمُحمّد بن وَصَّاف النزوي (ق5هـ).[5] وقَبْلَ هذا التاريخ كان أبو صالح اليراسني الجربي (ت431هـ) يطالع جزءا من مختصر محمد بن محبوب[6]. وكان أبو عمّار عبد الكافي الجزائري مطلعَ القرن السادس الهجري يطالع نسخةً وَصَلَتْهُ من ديوان الدعائم لابن النضر[7]. وكلُّ هذه المخطوطات المتقدمة لا أعلم شيئا من أصولها ظلَّ باقيا محفوظا إلى اليوم في مهاجرها، إلا أن تكون نُسَخًا منقولة عنها.

وشهد النصفُ الثاني من القرن الثالث عشر للهجرة موسمَ هجرة جماعية لمخطوطات عمانية، فقد قَدِمَ الشيخ محمد بن عيسى أزبار الجزائري زائرا إلى عُمَان وزنجبار بين سنتي 1260- 1265هـ، وكانت الحصيلة التي جمعها من الكتب تجاوز المئة والخمسين مجلدًا، أكثرها تَحَصَّل عليه بالشراء، أو أجَّرَ على نسخه من ماله، وبعضها مما أهداه إياه أهل عمان وزنجبار. ومن أهم ما اقتناه من المخطوطات: نسخة كاملة من كتاب «بيان الشرع» للكندي بأجزائه البالغة اثنين وسبعين جزءًا، ونسخة كاملة من كتاب «منهج الطالبين» للشقصي بأجزائه البالغة عشرين جزءا، و«كشف الغمة» للإزكوي بخط مؤلفه، و«الجامع» لابن بركة البهلوي، و«سبوغ النعم» المعروف بـ «مختصر البسيوي»؛ وهو أقدم مخطوط في مكتبته من حيثُ تاريخ نسخه، إذ نُسِخَ سنة 900هـ. وكل هذه المخطوطات محفوظٌ إلى اليوم.

ولم يَكَد القرن الثالث عشر ينقضي حتى وصلت إلى قُطْبِ الأئمة امْحَمَّد بن يوسف اطفيّش الجزائري (ت1332هـ) نسخة كاملة من كتاب «قاموس الشريعة» بأجزائه التسعين؛ إهداءً من أهل عُمان، وخزانته اليوم طافحة بعشرات المصنفات العُمانية. ولا يخفى أن جُلَّ ما خرج من عمان إلى خزائن أوروبا كان خلال القرن الرابع عشر الهجري، ومع حرص الأوروبيين على التوثيق نرى سجلات بعض المكتبات الأوروبية تخلو من بيانات بعض المخطوطات، وزمان وصولها إليها، وبأي طريقٍ وصلت.

 

[11]

  • كيف السبيل إلى لَمِّ شتات المخطوطات المهاجرة؟

لا ريب أننا لا نتحدث هنا عن أصول المخطوطات، فالقانون الدولي يجرّم نقلها خارج حدودها، لكنَّ لَمَّ الشتات الذي نريده يكون عن طريق تصويرها للاحتفاظ بنُسَخٍ منها في موطنها الذي خَرَجَتْ منه. والخطوة الأولى قبل لم الشتات هي تكوين قاعدة بيانات شاملة للمخطوطات العمانية المهاجرة وأماكن حفظها. والسبيل إلى ذلك يتأتى بطريقين: الأولى: تتبُّع فهارس خزائن المخطوطات؛ المنشور منها وغير المنشور، واستقراء محتواها، وتقليب النظر فيها مرارا لاستيفاء عناصر البحث فيها. والطريق الثانية: زيارة المكتبات العربية والإسلامية والعالمية للوقوف مباشرة على مقتنياتها من المخطوطات. وينبغي لنا – قبل كل شيء – أن ندرك أن صناعة قواعد البيانات الإحصائية يعتريها من الزلل والخلل أكثر مما يعتري غيرها من الدراسات والأبحاث، والطريقان المذكورتان آنفًا خيرُ دليل على ذلك، فإن الإحاطة بجميع الفهارس متعذرة، وزيارة كل خزائن المخطوطات في الخافقين أمرٌ لا يقوى عليه بشر. غير أن قواعد البيانات من شأنها أن تضع – بين يدي الدارسين – مفاتيح البحث الأولى لِطَرْقِ هذا الباب الواسع.

وقبل أن نتحدث عن الطريقين بشيء من التفصيل نطرح سؤالا: ما الداعي إلى جمع المخطوطات المهاجرة؟ أليس في نُسَخِها الأخرى المحفوظة بموطنها غُنْيَةٌ عنها؟ والسؤال على هذا النحو يستبق جوابَه، لأن الغاية المرجوّة من جمع المخطوطات المهاجرة لا تُدْرَكُ إلا بعد استقرائها وتتبُّعها. والاستقراء المبدئي يؤكد لنا ضرورةً مُلِحَّةً لجمعها، لاشتمالها على نوادر لا توجد عندنا في عُمان، كمخطوطة (شرح القصيدة الخفيرية) لسليمان بن عامر ابن أبي الخفير الريامي (ق12هـ) المحفوظة في مكتبة كلية الدراسات الشرقية في لندن، وهي نسخة يتيمة. ومخطوطة (منهاج الأخيار الجامع للنثر والأشعار) لسالم بن عبد الله بن خلف البوسعيدي الأدمي (ق12هـ) بخط مؤلفها، بحوزة خزانة البكري في الجزائر. ومخطوطة (كشف الغمة) لسرحان الإزكوي (ق12هـ) بخط مؤلفها، بحوزة خزانة عشيرة آل خالد بالجزائر.

ثم إن استقراء المخطوطات المهاجرة من شأنه أن يقدِّم لنا مؤشرات على سعة انتشار بعض الكتب، وهو ما يقودنا إلى تقصّي الأسباب الكامنة وراء ذلك. ويحضرني هنا مثال منظومة «زاد الفقير وجبر الكسير» في علم الطب؛ للطبيب راشد بن خَلَف الرستاقي العماني، فزيادةً على نُسَخِهِ العديدة في الخزائن العمانية توجد له نسخ مخطوطة أخرى في دار الكتب المصرية بالقاهرة، ومكتبة جامعة الإسكندرية، ومركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية في ليبيا، والخزانة الحسنية بالرباط في المغرب، ومكتبة الملك فهد بالمملكة العربية السعودية، والمتحف العراقي في بغداد.

 

[12]

  • إشكالية الفهارس:

انتعشت الكتابة في الآونة الأخيرة في علم المخطوطات عند العرب والمسلمين، وصِرْنا نرى كلَّ حَوْلٍ نتاجا جديدا في هذا الجانب، وتُطالعنا مراكزُ التراث المتخصصة بإصداراتها المتجددة من فهارس المخطوطات، وهذه – بلا شك – جهود مشكورة مقدرة، غير أنها لا تروي ظمأ الباحث، خاصَّةً إذا علمنا أن القدر الكبير من المخطوطات العربية ما زال غيرَ مُفَهْرس، أو ما زالت فهارسه محفوظةً بين جدران الخزائن، غير متاحة للباحثين المتعطشين.

و«لعل تحقيق المخطوطات كان أمرًا هَيِّنًا في بداية ظهوره من ناحية انتقاء المخطوط وإيجاد نُسَخِه، ولمعرفة المحقق أنه يُقْدم على ما لم يقترب منه غيره، فلم يحتج الأمر إلى ما أصبح ضروريا فيما بعد، وهو معرفة المحقق واطلاعه على البيبليوغرافيات العربية لينظر إن كان قد تم تحقيق ما هو عازم على تحقيقه أم لا. ومع الإقبال الهائل على تحقيق التراث العربي ظهرت ضرورة مُلِحّة لإنشاء مراكز متخصصة في الحفاظ على المخطوطات وفهرستها. ثم لم تلبث المكتبة العربية طويلا حتى صارت عامرة زاخرة بكتب فهارس المخطوطات. لم تخل تلك الفهارس من فوائد وتسهيلات على الباحثين، غير أنها ظلت دائما قاصرة عن الإلمام بجميع عناصر فهرسة المخطوطات نظرا لطابعها الورقي، وعدم وجود إمكانية يسيرة للتعديل والتحديث والمتابعة والتجديد».[8]

وقد قدَّمْتُ القول أن الفهرسة عمل شاق لا يَقْوَى عليه إلا من أوتي صبرا وجلدا وأناة، والواقع أنك تجد كثيرا من الفهارس مجملة، لا تأخذ منها فائدةً يحسن السكوت عليها، ولا تعطيك بيانات واضحة عن المخطوط وأهميته. مع أننا نرى علماء المسلمين القدامى الذين أصَّلوا هذا الفن حرصوا على توصيف الكتب بمنهج واف شاف، يفرز بينها وبين غيرها، فتراهم يذكرون مثلا صَدْرًا من مقدماتها، للدلالة على محتواها وموضوعها.

وليس أمر الاستفادة من الفهارس مقصورا على الجمع والإحصاء فحسب، بل هي مفتاح الباحث والمحقق إلى الإحاطة بأكبر عدد ممكن من نُسَخِ الكتاب الذي ينوي الاشتغال عليه، ومدعاةٌ له إلى تمييز الصحيح منها من السقيم، ومعرفة الأقدم منها، وأيها الأَوْلَى باعتماده دون غيره. وإن كانت الفهارس لا تجيب على هذه التساؤلات باتت الفائدة منها غير مرجوة.

يقول الأستاذ أحمد شوقي بنبين: «إن علم المخطوطات لا يقبل البيانات السطحية اليسيرة المكدّسة في فهارس المخطوطات موجزة كانت أو مفصلة؛ إنه لا يستسيغ الأحكام المبنية على الحدس والتخمين في حين يمكن إثباتها بوسائل علمية حديثة. إن التداخل بين العِلْمَيْنِ والتكاملَ الذي أصبح ضربةَ لازبٍ بينهما يدعوان إلى القيام بعمل مشترك قمين بالكتاب المخطوط، وذلك في معهد علمي على غرار معهد البحث وتاريخ النصوص الذي استُحدِثَ في باريز منذ الثلاثين من هذا القرن. هناك يمكن لعِلْمِ المخطوطات أن يتعامل مع الفهرسة التقليدية تعامُلَ القاضي مع المحجور عليه حتى يَتَبَيَّنَ رُشْده».[9]

 

[13]

  • هل أبواب خزائن المخطوطات مفتوحة للباحثين؟

لا شك أن المعاينة تقطع الشك وتنفي الوهم، غير أن الواقع يقول: إن كثيرا من خزائن المخطوطات موصدة الأبواب. ولا بُدّ أن نتفهّم حرص القيّمين عليها، لكن احتكار منفعتها أمرٌ لا يمكن تَفَهُّمه. والمشتغلون بالمخطوطات نادوا عدة مرات إلى ضرورة سَنّ قوانين تكفل لمالك المخطوط حقه، وتضمن للباحثين انتفاعهم به، والحاجةُ داعية إلى توضيح الصيغة القانونية لتداول صور المخطوطات، فإن كثيرا من أصحاب الخزائن ما زالوا ينظرون بعين الريبة إلى أي خطوة تُتَّخَذُ لتصوير مخطوطاتهم، لأنها تعني لهم بدايةَ الاستغناء عنهم، وربما تَجَاهُلَ الإشارة إليهم عند توثيق نسبة المخطوط إلى مكان حفظه الأصلي.

وتجربتنا مع المخطوطات العمانية المهاجرة تبرهن على أهمية الوقوف على صور المخطوطات دُونَ الاكتفاء بفهارسها، لأنها تضيف بيانات جديدة، وتصحّح معلومات خاطئة، وقد ترفع الجهالة عن ما جهله المفهرسُ من عنوانات المخطوطات ومؤلفيها ونُسّاخها وتواريخها. وهذا كله يؤكد ما قلتُه سابقا من تميُّزِ المخطوط العماني بميزات وخصائص لا يُحْسِنُ التعامل معها إلا أهلوها.

 

[14]

  • المخطوطات الوافدة إلى بلادنا:

في ظل سيادة الصورة النمطية السلبية للمخطوطات (المهجَّرة) يندر الالتفات إلى جانبها الآخر؛ المتمثل في هجرتها العكسية إلى ديارنا، والمنطقُ يقول: إن في كل بلادٍ مخطوطاتٍ من نتاج أهلها، ومخطوطاتٍ وافدةً إليها. وفي بلادنا عُمان قدرٌ كبير من المخطوطات الوافدة تحتاج إلى دراسة مستقلة، بل ربما اقتضت نفاسةُ بعضها أن تُفْرَدَ كلُّ مخطوطة بدراسة تبيّن قيمتها وأهميتها. ومن المؤسف أن نشاهد كتبا تراثية محققة تصدر تباعا دون أن تُعتمد أصولها الخطية المحفوظة بعمان، مع أنها قد تشكّل فارقا في ضبط النص وإتقان قراءته وإخراجه، وانظر – إن شئتَ – مقدمة الدكتور إحسان عباس على تحقيقه لمعجم الأدباء لياقوت الحموي، وكيف شَكَّلت النسخة العمانية فارقا في تحقيق النص.

والمسؤولية – في المقام الأول – مُلقاة على عواتقنا في هذا الجانب، لِشُحّ الفهارس المعرِّفة بكنوزنا، وقلة الدراسات الرصينة التي تلتفت إلى مثل هذه الأطروحات الجادة. على أنني أنتهز الفرصة هنا لأشير إلى أن الكثرة الكاثرة من المخطوطات الوافدة إلى بلادنا برهانُ صدقٍ على أن عُمان لم تعرف الانغلاق الفكري عبر تاريخها الطويل، وأن أبوابها ظلت مُشْرَعَةً تستقبل كلَّ حاملِ عِلْمٍ إليها أو ناقلِ معرفةٍ. على الرغم من الصورة المضادّة عند الآخرين، كما سيأتي بيانُه في الفقرة الأخيرة.

 

[15]

  • هل أسهمت المخطوطات المهاجرة في تصدير الثقافة العمانية؟:

تقدمتْ دعوتي أوَّلَ المقال إلى ضرورة النظر إلى مخطوطاتنا المهاجرة باعتبارها رُسُلَ سلامٍ إلى الشعوب الأخرى، ووشائجَ تواصُلٍ، وحبالَ مودَّةٍ، تمهّد لنا أرضيَّةً نتحاور فيها ونتفاعل، فالكتاب خيرُ وعاء للثقافة، وخيرُ سفيرٍ بها إلى أقطار العالم، أيا كانت هجرته طبيعية أو قسرية. ولنا – مع هذه السفارة الجليلة التي يؤديها – أن نتساءل: هل انتفعت الشعوب الأخرى بسفارته؟ وهل كان له دور في التعريف بعمان خارج حدودها؟

الحقيقة أنني اشتغلتُ منذ زمن بمحاولة الإجابة على هذا السؤال في دراسةٍ عنوانها: «المخطوط العُماني كَنْزٌ لم يُكْتَشَفْ بَعْدُ»، خلصتُ فيها إلى أن النقل عن المصادر العمانية الأصيلة يكاد يكون شبهَ معدومٍ في المصادر العربية. ولو أخذنا مثالا واحدا على ذلك: دراسة الدكتور هلال الحجري بعنوان: «موسوعة عُمان في التراث العربي» في ثلاثة مجلدات؛ لوجدنا فيها ثروة من المعلومات المتناثرة عن عُمان جمعها الباحث من كتب اللغة والأدب والتاريخ والجغرافية والتفسير والحديث والفقه، لكن الذي يلفت الانتباه حين تُقلّب ثنايا هذه الموسوعة أن الكتاب – باعتباره مصدرا أصيلا مهمًّا في التعريف بعُمان – غائبٌ عن الساحة، فلا نكاد نجد أحدا من اللغويين أو الأدباء أو المؤرخين أو الجغرافيين أو المفسرين يصرح بالاطلاع على كتاب عُماني يستمد معلومةً منه. وهذا يدفعنا إلى التساؤل: هل كان الكتاب العماني أَنْدَرَ من الكبريت الأحمر؛ لدرجة أنهم لم يقفوا عليه طيلة قرون؟ أو بَلَغَتْهُم كتبٌ عمانية لكنهم استنكفوا النظر فيها؟

والأمر عند المتأخرين يهون، إذ نرى عددا من المصنفات المتأخرة اعتمَدَتْ مصادر عمانية مخطوطة أو مطبوعة، وبدأت صورةُ القُطْرِ العماني المجهول تتغير عند كثير من الدراسين، سواء كانوا من العرب أو المسلمين أو المستشرقين، مع أنها لا تخلو من قصور في النظر، يُشاب أحيانا بشيء من الانطباعات المترسخة التي تستعلي على الحقيقة.

والخلاصة إن هجرة المخطوطات ظاهرة طبيعية، مهما تعددت وجهات النظر إليها سلبا أو إيجابا، ولا مناصَ اليومَ – في ظل تطور التقنيات الحديثة – من إتاحتها للباحثين، لأنها إِرْثٌ معرفي للبشرية كلها، وهي نتيجةٌ حتمية للتدافع والتلاقح والتواصل الإنساني.

[1] المخطوطات المهاجرة في مكتبة تيدسي (دراسة كوديكولوجية)؛ إعداد: مصطفى طوبي. المجلة الجزائرية للمخطوطات. المجلد العاشر؛ العدد الحادي عشر، ص69.

[2] الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الإباضية- القسم الثاني؛ لسليمان الباروني. مطبعة الأزهار البارونية- القاهرة. ص189.

[3] مخطوطة رقم 1127 في خزانة دار التلاميذ بجامع غرداية الكبير بالجزائر. ومخطوطة رقم 248 بمكتبة صالح لعلي في بني يزقن بالجزائر.

[4] أفادني بها الباحث الجزائري الأستاذ: بشير بن موسى الحاج موسى.

[5] الجواهر المنتقاة في إتمام ما أخلّ به كتاب الطبقات؛ لأبي القاسم بن إبراهيم البرادي؛ الطبعة الأولى: 1301هـ/ 1884م (طبعة حجرية) المطبعة البارونية- القاهرة/ مصر. مقدمة الكتاب.

[6] طبقات المشايخ بالمغرب؛ لأبي العباس الدرجيني. تحقيق: إبراهيم محمد طلاي. الطبعة الثانية: د. ت. 2/ 177.

[7] المصدر نفسه 2/ 307.

[8] فهرسة المخطوطات العربية ماهيتها، أنواعها، واقعها ومدى نجاعتها؛ بقلم: حسين بورمل. مقال منشور بمجلة كلية الآداب واللغات. جامعة محمد خيضر بسكرة/ الجزائر. العدد الواحد والعشرون/ جوان 2017م. ص237.

[9] علاقة الفهرسة بعلم المخطوطات؛ بقلم: أحمد شوقي بنبين. ندوة قضايا المخطوطات (2) سبتمبر 1998م بعنوان: فن فهرسة المخطوطات؛ مدخل وقضايا. إصدار معهد المخطوطات العربية- القاهرة. 1999م. ص44.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *