حارث بن سيف الخروصي
ينتشر في عمان كم كبير من الرسومات الموغلة في القدم التي لم تحظ حتى اللحظة بما يليق بها من اهتمام و دراسة، رغم المحاولات التي قد تشكل بداية حقيقية لدراسة تلك الرسوم و الكتابات و التعريف بقيمتها الحضارية و إمكانات استثمارها ثقافيًا .
بعد مدة من زمن ظهور الرسومات الصخرية ظهر ابتكار جديد ومهم وهو رسم الرسوم الصوتية في ما يعرف اليوم بالكتابة، فكل حرف يمثل صوتًا معينًا، فكانت الرسالة المنقولة عبر الكتابات أكثر وضوحًا لمن يتكلم بنفس اللغة، وكان ذلك الاكتشاف الإنساني غاية في الأهمية للتبادل الثقافي منذ تلك العصور وحتى اليوم .
وفي عمان تنتشر الكتابات العربية القديمة التي تعود لما قبل ظهور الاسلام بشكل أكبر في محافظة ظفار، بينما تنتشر كتابات أخرى في أماكن أخرى في عمان مثل وادي السحتن وهضبة الجبل الأخضر عامة والمناطق القريبة الأخرى .
شكل ظهور الاسلام في الجزيرة العربية نقلة نوعية وثقافية حيث أدى انتشار الاسلام وتعلم القرآن الكريم إلى توحد كبير في لهجات الجزيرة العربية عبر مرور الزمن بالطبع، وكذلك انتشار سمات متقاربة من الخط العربي عبر الخط الزمني، حيث شكلت كل مرحلة زمنية أنماطًا متقاربة عبر الأماكن المختلفة .
وبينما كنت أشاهد صفحات الصخور في وادي بني خروص والتي تتضمن آلاف الكتابات والرسومات الصخرية شدني نقش يعود إلى سنة 398هـ لشاذان بن مالك، ونص المكتوب: «كتب شاذان بن مالك في رجب سنة ثمان وتسعين وثلثمائة» (لوحة 1)، وهو أقدم نقش صخري مؤرخ مكتشف في وادي بني خروص، ويقع هذا النقش على مرتفع يبلغ أربعة أمتار عن سطح الأرض، وقد بدا النقش مقتضبًا في مضمونه حيث حوى فقط اسم الكاتب وتاريخ الكتابة، ولا يعني هذا الاكتشاف بالضرورة أنه أقدم كتابة عربية بل هو أقدم كتابة مؤرخة مما اكتُشف حتى اليوم، حيث إن هنالك العديد من الكتابات التي لم يَرِد فيها تاريخ كتابتها .
و يلاحظ في الكتابات الصخرية اختلاف أنماط الرسم عبر العصور، وكذلك اختلاف الموضوع، فنجد الكتابات في صدر الاسلام تتناول الأذكار والاستغفار وطلب الرحمة، بينما تحولت في فترات لاحقة إلى تسجيل الأحداث الطبيعية والسياسية و الاقتصادية، وكذلك تدوين الأدبيات الشعرية، سواء كانت من تأليف الكاتب أو نقلًا عن غيره من الشعراء. وقد اشتهرت عائلات بكثرة الكتابة، كما اشتهر أشخاص بالكتابة أكثر من غيرهم .
وتشتهر في وادي بني خروص في قرية الهجير تحديدًا كتابات تاريخية غاية في الأهمية، مثل تأريخ عقد الإمامة للخليل بن شاذان في القرن الخامس الهجري، وعدد كبير من الكتابات التي تعود القرنين الخامس والسادس، والقرون التالية حتى القرن العاشر، ثم تضائل عدد الكتابات بعد تلك الحقبة، و لعل آخر كتابة في الموقع هي ما دونه خميس بن جاعد بن خميس من نعي لوالده جاعد بن خميس في القرن 13هـ/ 19م حيث كتب: «توفي الشيخ العالم الرباني أبي نبهان جاعد بن خميس بن مبارك بن يحيى بن عبدالله بن ناصر بن محمد بن حيا بن منصور الخروصي الإباضي العماني يوم الخميس ثالث الحج 1237. رضي الله عنه. كتبه خميس بيده». (لوحة 2)
ومن العائلات التي اشتهرت بالكتابة عائلة بلعرب بن بلعرب بن محمد بن بلعرب، فأجداده كانوا كُتّابًا وكذا أولاده، وقد توصلت من خلال الكتابات إلى شجرة نسب لهذا السلطان الذي توفي سنة 982 هـ تمتد لعشرة أجيال، ويبدو من كتاباته اهتمامه بالشعر ونقله عن الشعراء العرب المشهورين، وعنايته بتدوين نسبه. وقد وجدت كتابة أخرى لسلفه الخامس في قرية الهجار تعود لسنة 721هـ، وقد أورد أيضًا سلسلة نسب له، وكل تلك المعلومات بلا شك من الأهمية بمكان. ومن الطريف أن شاهد قبر السلطان بلعرب بن بلعرب بن محمد لا يزال موجودًا وعليه نقش يؤرخ أيضًا نسبه وتاريخ وفاته، ونص المكتوب: « توفي السلطان المعظم بلعرب بن بلعرب بن محمد بن بلعرب عشرين من شوال شهور سنة اثنين و ثمانين و تسعمئة من هجرة محمد صلى الله عليه وسلم. كتبه محمد بن شاذان بن بلعرب» (لوحة 3)، ولعل هذا السلطان هو من خرج مع السلطان فلاح بن المحسن النبهاني والسلطان مالك بن أبي العرب اليعربي في مسيرهم إلى وادي بني خالد سنة 980 هـ في جمع كبير من قبائل عمان، حسبما أورد ذلك الشاعر موسى بن حسين بن شوال الحسيني الكيذاوي في قصيدة مطلعها: «عرج فهذي رسوم الأثل والبان .. واستشف منها بظل الأثل والبان».
ولعل أقدم كتابة للسلطان بلعرب بن بلعرب من محمد كانت في سنة 942هـ، حيث نقش أبيات من الشعر على الجبل، و لكن بسبب عوامل التعرية كان من الصعوبة قراءة تلك الأبيات. وقد كتب في آخرها: « كتبه بلعرب بن بلعرب بن محمد بن بلعرب بن محمد بن عدي بن محمد في عشرين من محرم سنتين و اربعين سنة بعد تسعمئة سنة» (لوحة 4) ويوافقه يوم 21 يوليو 1535م.
والحقيقة أن الفن الصخري يمثل تكاملًا مع المخطوطات التاريخية، فعلى سبيل المثال يذكر مانع بن علي بن محمد بن إسماعيل في نقش صخري حدوث فيضان بتاريخ 29 شعبان970هـ الموافق 24 ابريل 1563م ويورد إحصاءً للأضرار المادية والبشرية، حيث يشير الكاتب إلى وفاة شخص واحد يدعى سالم بن حارث، وتدمير خمسين بيتًا في قرية ستال، و اقتلاع خمسمئة نخلة (لوحة 5)، فنلاحظ أن هنالك تكاملًا بين المدونات الصخرية و المدونات الورقية، ومثل هذه المعلومات ذات أهمية للمعنيين بالطقس والمناخ أيضًا.
تؤرخ الكتابات الصخرية كذلك للحياة الاقتصادية، فمثلًا يشير الشيخ محمد بن خميس في كتابة صخرية في قرية العليا إلى مجموع محصوله من التمر في قرية العليا و بلد سوني حيث باع المحصول بمبلغ و قدره ألف تومان وهي عملة متداولة حيذاك، بسببب جائحة المتق وهو مرض يصيب النخلة، و ذلك في عام 1134هـ الموافق شتاء عام 1721م . (لوحة 6) ونص الكتابة: «ومن يتق الله يجعل له من أمره مخرجا و من يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره . كتبه محمد بن خميس. الله أعلم أن سنة 34 بعد مئة سنة و ألف سنة متقت العليا و ما جاء منها إلا عشرين جراب من مال والدنا و كان … أزيد من ألف تومان و كان له في سوني القديمة … ما حصل منهن إلا أربع جرب. كتبه محمد بن خميس بن مبارك بن يحيى الخروصي و أنا ولد 32 سنة».
ويعتبر الشيخ محمد بن خميس من المكثرين في الكتابات الصخرية، حيث وثق على صخرة كبيرة قصة إنشاء فلج العوابي و تقسيم المناطق الزراعية المستحدثة (لوحة7)، وهذا الشيخ هو الأخ الأكبر للشيخ أبي نبهان جاعد بن خميس (ت1237هـ)، و له العديد من الكتابات في وادي بن خروص بعضها يشير فيها إلى أحداث سياسية وأخرى اقتصادية.
والحقيقة بأن الفن الصخري استمر في دور التوثيق زمنًا طويلًا، كما ظهر مختصون بالنحت على الصخور، وهم أشبه بصحفيين يخطون أفكارهم و يسطرون الأحداث، وقد ظهر في القرن 13هـ/19م نقّاش محترف على الصخور لم يحظ بالاهتمام الذي يليق به، وهو سعيد بن شنون العوفي وله الكثير من الكتابات الصخرية التي أرخت لجوائح طبيعية وأحداث سياسية كان من أهمها وصول السلطان سعيد بن سلطان إلى بندر عباس بعد وفاة واليه سيف بن نبهان بن سيف المعولي، والأحداث العسكرية التي واكبت وصول السلطان المذكور. (لوحة8) ونص الكتابة: « انتقل السيد المكرم و السلطان المعظم سعيد بن سلطان بن سلطان بن الإمام أحمد البوسعيدي إلى بندر عباس بعد ما مات واليه سيف بن نبهان بن سيف المعولي، و انتقل العجم إلى البندر و دبر في سراياه ولده ثويني، ووصلوا إلى البندر واقتتلوا قتالًا شديدًا وصح… ». وفي كتابات سعيد بن شنون أيضًا الكثير من النقولات الشعرية.
أخيرًا نقول بأن كل أمة تريد أن تكون ثابتة في معترك الحياة الإنسانية لا بد أن تكون مدركة لجذورها التاريخية، فخورة بمنجزاتها الحضارية . وعلى الأجيال الصاعدة أن تدرك أن هنالك تاريخًا عظيمًا اختزنته هذه الأرض و اختزله الإنسان عبر العصور، وأنه يجب عليهم مواصلة المسير .
و كذلك نشير هنا إلى أمر هام وهو ضرورة الاستثمار الثقافي وتطوير المواقع التاريخية الثقافية سياحيًا و ثقافيًا، و إشراك المجتمع المدرسي والجامعي في البحث والاطلاع، مقدرين في ذات الوقت جهود المؤسسات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني والمبادرات الاهلية، ولا ننسى أن نشيد بجهود كثير من الباحثين المستقلين الذين ينقبون في جوانب التاريخ، مؤثرين في الساحة الثقافية العمانية والعالمية.
المصادر والمراجع:
- تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان. عبدالله بن حميد السالمي. مطبعة الشباب. القاهرة. 1350هـ.
- ديوان الكيذاوي. موسى بن حسين بن شوال الحسيني. وزارة التراث والثقافة. مسقط. 1434هـ/ 2013م.
- جريدة الوطن. مسقط. (العدد: 12695) 6رمضان 1439هـ/ 22مايو 2018م.
- الفن الصخري في عمان. حارث بن سيف الخروصي. ذاكرة عمان. الطبعة الأولى 1437هـ/ 2016م.