د. خالد بن سليمان بن سالم الخروصي
تعد الـمطبعة السلطانية أول مشروع من نوعه ليس في زنجبار فحسب، وإنما في عموم شرق أفريقيا. وقد أنشأها السلطان برغش بن سعيد بن سلطان (1287 – 1305هـ / 1870 -1888م) بزنجبار عام (1299 هـ / 1882م). وقد استمرت هذه الـمطبعة في إخراج إصداراتها حتى توقفت بعد زوال الحكم العماني عام (1383هـ / 1964م). لقد أدى انفتاح السلطان برغش على العالم الذي جسدته زيارته لبعض الدول العربية والأوروبية من جهة ، وحبه لنشر العلم من جهة أخرى إلى شراء مكونات الـمطبعة من مطبعة الآباء اليسوعيين من بيروت عام (1299هـ / 1882م). وقد استقطب لها بعض الخبراء اللبنانيين لتشغيلها، وأوكل إلى بعض العلماء الإشراف على طباعة الكتب فيها (الموسوعة العمانية، 2014، ج5، ص 214). وبذلك أحدث هذا الـمشروع نقلة نوعية في الطباعة والنشر ليس في زنجبار فحسب ؛ بل في عموم شرق إفريقيا.
الـمكونات الـمادية لإصدارات الـمطبعة السلطانية:
هناك مكونات مادية ميزت إصدارات الـمطبعة السلطانية، وهي كحال باقي الـمطبوعات في العالم اصطبغت بالصبغة الغربية؛ إذ إن الـمطبوعات عبارة عن ابتكار وصناعة غربية بعكس الـمخطوطات التي تعد صناعة شرقية. وأما أهم المكونات الـمادية لمطبوعات المطبعة فهي:
ضلوع الكعب: وكانت تُعمل لتزيين منطقة الكعب وتدعيمها ضد الصدمات.
ورق الإيبرو: ويعرف كذلك بورق الزخرفة الرخامية، وقد بدأ في عصر السلاجقة وانتشر في إيران والصين ووصل إلى الغرب عن طريق تركيا، وكان الشرقيون يستعملون الألوان الـمائية لعمل ورق الإيبرو، وقد صنع الغرب هذا النوع من الزخارف عن طريق الألوان الزيتية.
طريقة الخياطة: بعكس صناعة الـمخطوطات العربية؛ قام الغربيون بنشر الكتب بمنشار تمهيدًا لخياطتها في مكان النشر؛ وذلك عن طريق إدخال إبرة الخياطة وتمرير خيوط ترص الـملازم الورقية. وهي طريقة تجارية تهدف إلى العمل السريع. بينما عمل العرب على خياطة الـمخطوطات بالخياطة العربية بدون نشرها. ويلاحظ في إصدارات الـمطبعة السلطانية ــ التي اطلع عليها الباحث ــ أن جميعها تمت خياطته بطريقة الثقب، وهي عبارة عن ثقب الـملازم الورقية بآلة يدوية كانت تستعمل لثقب الخشب؛ وهي طريقة خاطئة تسببت في تكسر الكثير من أوراق إصدارات هذه الـمطبعة. وعادة لا تقوم الـمطابع بهذه الخياطة؛ ويعتقد الباحث أ.سلطان الشيباني (مقابلة بتاريخ 31 يوليو 2018، مسقط) بأنه كان هناك ورشة تجليد رديفة للـمطبعة تقوم بعمليات الخياطة؛ والذي ربما يفسر هذا النوع من الخياطة غير المناسبة.
التذهيب: تم تذهيب الـمطبوعات حراريــًا عن طريق صناعة قوالب من الزنك وضغطها في جلد ماعز مدبوع لنقل تلك الزخارف إلى الكتب.
الـمخلع: عُملت مخالع الكتب الـمطبوعة من نفس ورق القميص وهو ورق الإيبرو.
وصف للصورة الوحيدة الـموجودة للـمطبعة السلطانية:
بحسب إفادة الباحث أ.سلطان الشيباني (مقابلة بتاريخ 31 يوليو 2018، مسقط) فقد وُجدت صورة واحدة فقط للـمطبعة السلطانية ؛ يمكن معرفة الاستنتاجات الآتية منها:
صورة قوالب الطباعة (في يمين ويسار الصورة) وُضعت الأحرف الـمتكررة في مربع الأحرف، ويحتوي كل قالب خشبي على 98 حرفـــًا، وهناك 8 إطارات خشبية تشمل 441 حرفــًا متكررًا. كما يقوم 7 عمال بتجميع الحروف من قوالبها لطباعة كتاب معين؛ كما يقوم البعض الآخر بإعادة الحروف إلى مكانها بعد طباعة إحدى الكتب.
يقوم عامل واحد (أسفل الصورة من الجهة اليمنى) بصف أحرف الزنك، وعامل واحد (وسط الصورة، يبدو أنه أحد الـمختصين اللبنانيين) يقوم بدهن الأحرف بفرشاة تُشرّب بالـمداد ثم تُضغط على الـمكبس لطبع الحروف على الورق. كما يُلاحظ عامل آخر (وسط من الجهة العلوية) يقوم بمناولة أو ترتيب مستودع ورق الطباعة. كما يقوم عامل واحد (أسفل من الجهة اليسرى) بعملية قطع حواف الورق.
بشكل عام، تعد هذه الـمطبعة يدوية وتقليدية بامتياز وليست آلية، وهي تأخذ جهدًا ووقتًــا وتكلفة مادية حتى يخرج الكتاب منها مطبوعًا ومجلدًا. يمكن اعتبارها مطبعة للأعمال الفنية التي تخرج إصدارات خاصة وفاخرة؛ والسلبية في هذه الطريقة البطء الشديد في إخراج الكتب. ويسند هذه الفرضية رسالة أرسلها السلطان برغش بن سعيد (1287هـ ــ 1305هـ / 1870م – 1888م) إلى الملك الخديوي توفيق ملك مصر (1296 هـ ــ 1309هـ / 1879م ــ 1892م) عام 1304هـ/ 1887م، يطلب منه فيها تسهيل الإجراءات القانونية الخاصة بطباعة كتاب قاموس الشريعة؛ وذلك بسبب بطء طباعة الـمطبعة السلطانية إذ لم تخرج سوى اثنا عشر جزءً من ضمن تسعين جزءً (أرشيف زنجبار، بدون رقم. وثيقة حصل على نسخة منها الشيخ الباحث أ.سلطان الشيباني)
والدليل الآخر الذي يثبت صحة الفرضية بأن الـمطبعة السلطانية كانت مطبعة فنية تركز على جودة الإخراج وليس على سرعة الإنتاج ما استنتجه الباحث أ.سلطان الشيباني بأن الجزء الأول من كتاب قاموس الشريعة ، وهو باكورة إصدارات الـمطبعة السلطانية المطبوع عام 1298هـ / قد طُبِع أربع مرات بصف أحرف مختلفة، فكان تُطبَع منه نسخ محدودة في كل مرة، ثم يطبع بعد مدة نفس الكتاب بصف أحرف مختلفة (مقابلة، الشيباني، سلطان بن مبارك، 8 أغسطس 2018، مسقط).
دراسة لنموذج من مطبوعات الـمطبعة السلطانية:
العنوان: قاموس الشريعة
الـمؤلف: الشيخ جميل بن خميس السعدي
مكان الطباعة: زنجبار ــ الـمطبعة السلطانية
سنة الطباعة:1304هـ/ 1887م
الوصف الـمادي: نموذج لتجليد الـمطبعة السلطانية، من الخارج الدفتان الأمامية والخلفية، ويظهر فيها الطابع الغربي للتجليد ويتجلى ذلك في الضلوع، وهي خطوط بارزة في الكعب تربط بين الغلاف الأمامي والخلفي، وتستعمل للزينة بالإضافة إلى حماية الكعب من الصدمات، بالإضافة إلى الزخارف الغربية المُذهّبة على الغلاف بطريقة الطبع الحراري، مع عمل إطار بني أنيق يحدد أطراف الكتاب. وأضيفت هوية عمانية للغلاف وتجلى ذلك في اللون الماروني (الأحمر القاني) وهو لون الغلاف بالجلد الطبيعي، وهو كذلك اللون الأساسي لسلطنة زنجبار، هذا إلى جانب ختم السلطان في وسط الدفتين الأمامية والخلفية. وبشكل عام فإن هذا الغلاف مكلف للغاية ولا يستعمل إلا للإهداءات خاصة لكبار الشخصيات والـمقربين من السلطان. وقد صدرت جميع إصدارات الـمطبعة السلطانية بهذا التجليد سواءً بلسان للكتب الكبيرة أو بغير لسان للكتب الأصغر، ويبدو الطابع الأوروبي للتجليد واضحــًا. أما قميص الكتاب، فهو مغطى بورق الإيبرو، الـمعروف بورق الزخرفة الرخامية، وبعد فحصه تبين أنه ورق إيبرو أصلي صُنِع في أوروبا، وتحديدًا إما في فرنسا أو في بريطانيا، وهو صنعة غربية بامتياز إذ على الرغم من أن منشأ هذا الورق شرقي انتقل إلى الغرب عن طريق إيران ثم تركيا، إلا أن العرب لم يستعملوه في تجليد كتبهم. وبشكل عام يتبين بأن هذا الورق مكلف؛ وعادة يتم استعماله لتقميص النسخ الفاخرة من الكتب. يتبين أن ورق كتب الـمطبعة السلطانية هو ورق تجاري كان سائد الاستعمال، وتسبب استعماله في تدمير الجانب الأكبر من الكتب التي طُبِعت في ذلك الوقت لحامضيته واحتوائه على كميات كبيرة من الخشب. كما أن قميص الكتاب من نوع آخر؛ وهو أسوأ من ورق الكتاب وأقل جودة.
وبشكل عام، يعد عمل الـمـطبعة السلطانية مكلفــًا للغاية بسبب التجليد السميك الفاخر الذي كان يُعمل في المطبعة، بالإضافة إلى تكلفة ورق الإيبرو الأصلي والزخارف الـمذهبة.
إشكالية الخياطة في كتب الـمطبعة السلطانية:
لا تقوم الـمطابع في الغالب بتجليد الكتب؛ وإنما تقوم به ورش تجليد صغيرة. ويهدف أصحاب الكتب من التجليد إلى المحافظة على كتبهم من التلف وحمايتها من مسببات التلف من جهة، أو بقصد إهداءها إلى بعض الشخصيات الـمهمة من جهة أخرى. إن أسوأ ما قام به مجلدو كتب الـمطبعة السلطانية هو ثقب ملازم الورق بمثقاب ورق بطريقة سيئة للغاية. ويعود السبب في ذلك إلى أن معظم الـمجلدين متخصصون في صناعة وتلبيس الغلاف ولم يكونوا متخصصين في خياطة الـملازم الورقية التي تأخذ وقتـــًا وجهدًا ومهارة عالية. لقد خرجت أكثر الـمطبوعات من الـمطابع مُخاطة بطريقة صحيحة تسهل معها فتح الورق مهما كان الـكتاب سميكــًا، وحتى في حالة ثقب الورق عن طريق النشر وهو ما لم يُعمل به في الـمخطوطات؛ وهدف ذلك تسهيل وتسريع مهمة الخياطة، لكن لم تتأذى الـمطبوعات مثلما تأذت بطريقة ثقب الـملازم بمثقاب خشب؛ والنتيجة عدم المرونة في تقليب الورق وتكسر الورق في منطقة الخياطة بعد مدة. إن إصلاح الضرر الذي تسبب به هؤلاء الـمجلدون لا يتم إلا بترميم الـمطبوعات بطريقة عاجلة، وذلك عن طريق فك تجليدهم الخاطىء ثم ترميم الثقوب التي أحدثها الثقب، بعدها تُخاط الـملازم الورقية بالطريقة التي خرجت منها الـمطبوعات من الـمطابع. كما أقدم هؤلاء الـمجلدون على الطريقة ذاتها عند تجليد الـمخطوطات فكانت النتيجة أشد إيلامــًا.
الورق الـمستعمل للطباعة:
لقد واكب اختراع آلة الطباعة طلب كبير على الورق؛ ولم تتمكن مصانع الورق القليلة جدًا في أوروبا من تلبية الطلب؛ فنتج عن ذلك ابتكار طرق سريعة وتجارية ليست بذات جودة لصناعة الورق عن طريق (فرم) الأشجار وتصنيع الورق بعد أن كانت ورش صناعة الورق التي سبقت ابتكار آلة الطباعة تقوم بصناعة الورق من القنب والكتان والقطن، وهي نباتات نقية ذوات ألياف طويلة ولا تصاب بالحموضة بسهولة وتخلو من الخشب (اللجنين). وقد كانت كتب الـمطبعة السلطانية تطبع في مثل هذا النوع من الورق؛ لذلك فقد تعرض الكثير منها للتكسر والتلف.
خاتمة:
يتضح بأن طريقة الطباعة والتجليد لكتب الـمطبعة السلطانية هي طرق أوروبية بحتة انتقلت كحال باقي الـمطبوعات في العالم. لقد قامت الـمطبعة السلطانية بطباعة بعض الـمطبوعات غير العمانية التي أصيبت بأمراض الورق مثل الحموضة واللجنين لأنها بنيت من خلايا مصابة بعدة أمراض أبرزها الخشب (اللجنين) وقابلية إصابتها بالحموضة بسهولة كما ساهمت ورش التجليد التي انتشرت لتجليد الكتب في تخريب كم كبير من هذه الـمطبوعات عن طريق ثقب الـمجلدين لكعب الورق باستعمال مثاقب خشب يدوية، والخياطة بخيط سميك بعكس خياطة الـمطابع الأفضل حالاً. ونتج عن ذلك فقدان مرونة تقليب الكتب وتكسر ملازم الورق، علمـًا بأن الـمطبوعات القديمة لم تُخَط بالآلة أبدًا بل كانت عملية الخياطة عملية يدوية بشكل كامل.
لقد كانت تجربة الـمطبعة السلطانية رائعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ ويعتقد الباحث بأن الصعوبات التي اكتنفت العمل كانت مرتكزة في ارتفاع تكلفة الـمطبوعات بسبب الجودة العالية الـمتعلقة بالتجليد والتقميص. حيث كان التجليد باستعمال ورق كرتوني سميك مغطى بجلد ماعز طبيعي مذهب ببعض الزخارف وبختم السلطان، كما كان التقميص باستعمال ورق إيبرو أصلي (ورق الزخرفة الرخامية)؛ وكل هذا ضاعف التكلفة. ويعتقد الباحث بأن تكلفة التجليد تكاد توازي تكلفة طباعة متن الكتاب، هذا من جانب، ومن جانب آخر يتضح من خلال الصورة الوحيدة التي وصلت إلينا للمطبعة بأن إخراج الكتاب كان بطريقة يدوية خالصة دون استعمال أية آلات، علمـًا بأن الطباعة في ذلك الوقت كانت أكثر تطورًا، ويدعم ذلك كله رسالة السلطان برغش إلى الخديوي توفيق ملك مصر الذي تذمر من خلالها من بطء عمل الـمطبعة السلطانية في طباعة كتاب (قاموس الشريعة).
ربما لم تخضع الـمطبعة السلطانية لتطوير جذري، حيث كانت تقنيات الطباعة تتطور بشكل مطرد في ذلك الوقت؛ بل استمرت باستعمال نفس الأدوات والـمعدات والطرق التقليدية البدائية. ويمكن القول بأن الـمطبعة السلطانية كانت مطبعة فنية بامتياز أكثر من كونها مطبعة تركز على الكم وإنما كانت تركز على الكيف؛ فأخرجت بذلك كتبـًا عالية الجودة في التجليد، وفي الـمقابل كان الإنتاج قليلاً وبطيئــًا من جهة وذا تكلفته مرتفعة من جهة أخرى.
وفي هذه الخاتمة نخلص إلى بعض التوصيات وهي:
- وقف وتحريم التجليد التخريبي بطريقة ثقب الـملازم الورقية.
- صيانة جميع مطبوعات الـمطبعة السلطانية الـمهمة بشكل عاجل، لا سيما التي تم تجليدها من قبل بعض ورش التجليد بالطريقة التخريبية، وعدم استعمالها فتحًا وتقليبـًا حتى تتم صيانتها؛ لكي لا تتعرض أوراقها للكسر. وفي حال لم تتيسر الإمكانات الـمادية يقترح الباحث وضع الـمطبوعات الـمُخربة في صناديق حفظ وتخزينها في مكان يتمتع بمناخ مناسب حتى تتوفر الإمكانات الـمادية لصيانتها.
- صيانة جميع مطبوعات الـمطبعة السلطانية الأقدم ولو لم تكن مجلدة بتلك الطريقة التخريبية؛ وذلك بسبب رداءة الورق الـمستعمل وإصابات الحموضة واللجنين العالية بها. وإن لم تتيسر الإمكانات الـمادية فتحفظ بطريقة قياسية حتى يحين وقت صيانتها، ويمنع التعامل معها إلا عند الحاجة الماسة لذلك وبحرص شديد.
- إجراء دراسات أكثر استفاضة حول الـمطبعة السلطانية، بحيث يحلل كل جانب مادي على حدة، مع الاستعانة بنماذج أكثر من الـمطبوعات. كما تُخصص دراسات مستقلة لتجربة إنشاء وتأثير الـمطبعة السلطانية في زنجبار كونها تجربة عمانية رائدة لطباعة الـمطبوعات العمانية، ثم دراسة الـمطابع العمانية الأخرى.
- دراسة كل الـمطبوعات العمانية التي صدرت من الـمطبعة السلطانية دراسة مادية مستقلة لـمعرفة البنى الـمادية لـمخرجات كل إصدار على حدة والمقارنة بينها.
____________________________________________
الـمصادر الـمراجع:
الوثائق:
- (أرشيف زنجبار، بدون رقم. وثيقة حصل على نسخة منها الباحث أ.سلطان الشيباني).
الـمقابلات:
- الشيباني، سلطان بن مبارك، 31 يوليو 2018، مسقط
- الشيباني، سلطان بن مبارك، 8 أغسطس 2018، مسقط.
الـمراجع:
- السعدي، جميل بن خميس : قاموس الشريعة. المطبعة السلطانية. 1304هـ/ 1887م. زنجبار.
- الشيباني، سلطان بن مبارك: تاريخ الـطباعة والـمطبوعات العمانية عبر قرن من الزمن. مسقط: ذاكرة عمان، 2015م.
- الموسوعة العمانية، بيروت، الـمطبعة السلطانية في زنجبار، ج5، 2014م.