التقييدات على طرر المخطوطات تكشف عن تواريخ كثيرة من بينها ما يعرف بالجوائح، وهي السيول العظيمة التي تتجاوز مجاريها الطبيعية وتقتحم أعماق قرى عمان فتهلك الحرث والنسل، وهي نتاج ما يعرف اليوم بالأعاصير والعواصف المدارية، وقد أرّخ العمانيون لجوائح كثيرة من أقدمها جائحة سنة 251هـ زمان الإمام الصلت بن مالك الخروصي، وقد نقل خبرها ابن مدّاد في سيرته ونقلتها كتب أخرى. لكن تبقى الكثير من تواريخ الجوائح لا تطالها أعين الدراسات التاريخية لأنها مندسّة بين صفحات وجلود المخطوطات. ويعرف السيل العظيم عند أهل عمان بـ(الجَرفة) لأنها تجرف كل ما تأتي عليه. ومن النماذج الطريفة لتدوين تواريخ الجوائح ما صنعه الفقيه العالِم عمر بن سعيد بن عبدالله بن سعيد بن عمر بن أحمد بن أبي علي بن معد البهلوي (ت: 1009هـ) إذ أرّخ لثلاث جوائح وقعت في عمان خلال القرن العاشر الهجري، الأولى سنة 942هـ والثانية سنة 970هـ، والثالثة سنة 997هـ.
دون ابن معد هذه التواريخ الثلاثة في أول مخطوط الجزء الثامن والثلاثين من كتاب بيان الشرع (مكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي) الذي فرغ من نسخه سنة 976هـ، وقد جعل هذه التواريخ في صفحة العنوان وفي الصفحة المقابلة لها التي فيها ترتيب أبواب الكتاب. وبما أن نسخ الكتاب كان سنة 976هـ فإن اثنين من هذه التواريخ قد كتبهما تأريخًا لما وقع قبل نسخ الكتاب بسنين، فالجرفة الأولى كانت سنة 942هـ، والثانية سنة 970هـ. أما تأريخ الجرفة الثالثة فقد دونه في الصفحة المقابلة يمين صفحة العنوان، ونلحظ في ذلك التدوين اختلاف الخط قليلاً مع تقدم صاحبه في العمر، إذ كان قبل وفاته بعقد ونيّف. وها هنا نصوص التواريخ الثلاثة:
(1): «وقعت جرفة في عمان يوم الثلثا لثمان ليالٍ إن بقين من شهر شعبان سنة اثنتين وأربعين سنة بعد تسعمائة سنة، وذلك أنه ضرب المطر ليلة الثلثا كلها إلى الليل من ليلة الأربعاء في الجبل والسوى فعرض وادي بَهلا وجميع الأدوية التي عليه فحمل السور من الجانب الغربي وحمل صرح مسجد الميتا الذي بِحارة الخضرا وحمل نخلًا كثيرة وكذلك وادي نزوى حمل بيوت نزوى التي بحارة الوادي وحمل نخلًا كثيرة، وهي سنة خصب وأولها كان محل كثير، الأفلاج كلها ميتة من بهلا إلا فلج ميتا وفلج عين اللامة، والله أعلم».
(2): «وكذلك وقعت جرفة أخرى يوم الجمعة يوم تسعة وعشرين من شهر شعبان سنة سبعين سنة وتسعمائة سنة، وذلك ضرب المطر ليلة الجمعة وقت العشا الآخرة في بَهلا، وأما شرقي عمان قيل إنه ضرب قبل العشا الآخرة، وهي جرفة عظيمة بعمان كلها عما قيل بعد جدب عظيم، وضرب المطر جبلا وسوى وقت العشا الآخرة إلى الصباح، وسال وادي بهلا وحمل صرح مسجد الميتا الذي بِحارة الخضراء وحمل نخلًا كثيرة، وقيل إن وادي سمايل حمل من سمايل ناسًا كثيًرا».
(3): «وكذلك وقعت جرفة أخرى سنة سبع وتسعين سنة وتسعمائة سنة، وهي جرفة عظيمة اجتاحت النخل التي على الوادي إلا ما شاء الله، رسة فلج الحديث وغيرها والسور من برج حشاس إلى بعد حارة الجبل السفلي إلى أن بلغت المال المسمى الكبيشية، وأما وادي سيفم فجرف حجرة بني شكيل كلها ومات فيها خلق كثير وكثير من البقر والغنم، وساير عمان كلها إلا ما شاء الله».
ونلحظ أن ابن معد وصف الجرفة وآثارها في محيط بلده مدينة بَهلا، ثم ينقل ما سمعه عن آثارها في بلدان أخرى مثل نزوى في الجرفة الأولى، وسمائل وشرقي عمان في الثانية، وسيفم وحجرة بني شكيل في الثالثة. كما يُعدّد ابن معد الحارات والأماكن والمواضع في بهلا في معرض وصفه لآثار الجرفة نحو حارة الخضراء والسور ومسجد ميتا وفلج ميتا وفلج الحديث وفلج عين اللامة وغيرها. كذلك نراه قد عيّن زمان الحدث بالأيام والليالي، ووصف عظمة الجرفة وبلوغها بعض المواضع، وما نجم عن ذلك من اقتلاع النخل وخراب البيوت وموت الناس والحيوانات من البقر والغنم، وفي التأريخ الأول وصف انقلاب الحال من المحل إلى الخصب، ووصف في التأريخ الثاني تأثير الجرفة على عموم عمان بقوله: «وهي جرفة عظيمة بعمان كلها عما قيل بعد جدب عظيم». ومثل هذه النصوص -فيما نحسب- مغنم حتى للباحثين في تاريخ الجوائح والأعاصير لو تهيأ تعقبها والكشف عن مجاهلها.